كشفت إحدى الرسائل، المفرج عنها مؤخراً من بريد رسائل هيلاري كلينتون الإلكتروني، أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير قام "بصورة خاصة جدًا" بإجراء اتصال هاتفي بالعقيد الليبي الراحل معمر القذافي، بعد أسبوع من اندلاع انتفاضة 17 فبراير 2011.
كان بلير وقتها يشغل منصب مبعوث اللجنة الرباعية لعملية السلام في الشرق الأوسط، ولم يتصل بالقذافي بصفته الرسمية هذه، إنما بصفة شخصية بالنظر إلى العلاقة الوثيقة التي ربطته بالأخير بعد إجبار بلير على الاستقالة من منصبه كرئيس وزراء في يونيو 2007، ليصبح مستشاراً مالياً لبنك الاستثمار الأمريكي جي بي مورغان مقابل مليوني جنيه استرليني سنويّاً.
زار بلير القذافي عديد المرات في لقاءات سرية كشفت عنها صحف بريطانية ولم يعلن بلير عنها. جرت تلك اللقاءات السريّة خلال عامي 2008 و2009. وربما كانت أولها بشأن مطالبة ليبيا بإطلاق سراح عبد الباسط المقرحي المتهم بتفجير طائرة لوكربي، وتهديدها بقطع علاقاتها الإقتصادية مع بريطانيا.
وقد توجه بلير إلى طرابلس، في مناسبتين على الأقل، حسب صحيفة الـ "صنداي تلغراف"، في طائرة خاصة وفرّها له صديقه القذافي. ومن بين زياراته العديدة تلك هناك ثلاث زيارات قام بها عام 2009 بغرض إرساء عقد تمويلي لصالح بنك جي بي مورغان في صفقة تقدر بمليارات الدولارات بين هيئة الاستثمار الليبية وشركة روسال أكبر منتج في العالم للألومنيوم التي يديرها الروسي اوليغ ديريباسكا.
وقد علق روبرت بالمر المتحدث باسم حملة "الشاهد العالمي لمكافحة الفساد" بعد اطلاعه على رسالة بلير في بريد هيلاري: "من الصعب أن نرى كيف يمكن التوفيق بين عمل مبعوث السلام في الشرق الأوسط، والتعامل التجاري والمالي مع القذافي." فعلى أي خليفة أو من أي منطلق اتصل بلير بالقذافي في بداية أحداث 17 فبراير 2011؟
بالتأكيد لا مجال للحديث في صفقات مالية. هل كان ذلك من باب مساعدة صديق عند الضيق؟!.
لنفحص ما جاء في مكالمة بلير مع القذافي، حسبما حررت مضمونها مديرة مكتب بلير كاثرين ريمر التي أرسلتها بتاريخ 25 فبراير 2011 إلى جاك سوليفان (كبير مستشاري هيلاري كلينتون للشؤون الخارجية) الذي أرسلها بدوره إلى الوزيرة هيلاري. بعلامة الموضوع: عاجل/ خاص/ سريّ. وأرفقتها بالملاحظة التالية: "مرحبا جاك. مرفق رسالة قصيرة. موضوعها آخر مكالمة هاتفية بين توني بلير والقذافي. السيد بلير طلب مني أن أعلمك أنه أجرى هذه المكالمة بصورة خاصة جداً. ليست للنشر الإعلامي... كاثرين".
وفق الرسالة هاتف بلير القذافي وأبلغه بلغة قوية جداً أن العنف يجب أن يتوقف وأن عليه أن يتنحى ليسمح بعملية انتقال سلمي للسلطة. لكن القذافي ردّ عليه بأن لا وجود للعنف في الشوارع. يقول بلير أن القذافي كان يعتقد اعتقاداً راسخاً أن ما يحدث هو محاولة لإعادة استعمار ليبيا. لكنه أكد له أن الأمر ليس كذلك. وكرر على مسمعه ضرورة إيقاف العنف الآن وأن يترك البلاد. طلب القذافي من بلير، عدة مرات، أن يأتي إلى ليبيا كي يرى بنفسه أن لا وجود للعنف. ردّ بأنه لا يدري إذا ما كان يستطيع أن يأتي إلى ليبيا.
ويقول بلير في رسالته إلى هيلاري أنه قال للقذافي:" إذا كان لديك مكان آمن خارج ليبيا فيجب أن تذهب إليه. لأن الأوضاع لن تنتهي بسلام ما لم تترك البلاد. حينها ستكون هناك عملية تغيير. وعلينا أن نجد طريقة لإدارتها." ويخبره أنه تحدث مع أشخاص وجميعهم يريدون نهاية سلمية. "لكن عليك أن تفعل شيئاً كي تأخذ عملية التغيير السلمي مجراها".
لا يفصح بلير عن هوية هؤلاء الذين تحدث معهم، وعما إذا كان لديه وعود قاطعة أمريكية أو أوروبية بتأمين حل سلمي للأزمة، حتى يقول لصديقه أن عليه أن يحاول فعل شيء لتحقيق ذلك. والطريقة الوحيدة، حسبما اقترح بلير على القذافي، هي أن يتحدث إلى الشعب، متعهداً بوقف استخدام العنف ضد المحتاجين كي تجري عملية التغيير السلمي بشكل سليم.
يقول بلير ناصحاً القذافي:" أنت تحتاج أن تكون في مركز من يساهم في تهيئة ليبيا للتغيير السلمي." وينبّهه أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في موقف صعب حالياً. وأنه يحتاج أن يعود إليهم بشيء يضمن حدوث نهاية سلمية للوضع. طبعاً لم يكن مكلفاً من أي جهة دولية رسمية بأن يرفع السماعة ويتحدث مع الديكتاتور الليبي المحشور في الزاوية.
وفي ختام رسالته يقول إنه قال للقذافي:" إذا رأى الشعب القائد يتنحى سوف يكونون راضين بذلك. وإذا جرى الأمر خلال يوم أو يومين قادمين فأننا سوف نتجاوز الأزمة. أما إذا لم نستطع إيجاد مخرج سريع فسنصل إلى نقطة اللاعودة..".
في اليوم التالي على المكالمة. أي 26 فبراير 2011. أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1970 متضمناً منع القذافي من السفر وإحالته إلى المحكمة الجنائية الدولية. وعندما عاد مجلس الأمن وأصدر في 17 مارس 2011 القرار 1973 الذي يجيز استعمال القوة لحماية المدنيين، قام نجل القذافي سيف الإسلام غداة صدور القرار بمحاولات للاتصال بالإدارة الأمريكية، وذلك حسب تقرير صحفي لقناة فوكس نيوز الأمريكية بثته يوم 7 أكتوبر الجاري، بينما كان والده يرسل عشرات الألوف من قواته المجحفلة إلى معقل الثورة في رتل عسكري ممتد بطول عشرات الكيلومترات وقد وصل مدخل بنغازي الغربي. وكان يمكن أن يسيطر على المدينة بسرعة لو لم يتدخل الطيران الفرنسي يوم 19 مارس 2011 ويشن غارات عنيفة متواصلة تمكّن بها من إيقاف الرتل ودحره بعدما قتل أعداداً كثيرة من أفراده ودمر معظم آلياته...
هنا وصلت الأمور إلى نقطة اللاعودة. وتوقف بلير عن الاتصال إلى أن تلقى اتصالاً في أغسطس 2011 من "اليد اليمنى" للقذافي دون أن يسميه. الأقرب للترجيح أنه عبد الله السنوسي. فكتب بلير يوم 9 أغسطس 2011 إلى هيلاري: "تلقيت اتصالا من اليد اليمنى للقذافي. طلب مني أن أجد وسيلة لحل الأزمة. وقال إنه يطلب هذا بالنيابة عن القذافي. وقلتُ يتوجب على القذافي أن يعين شخصاً يكون طرفاً في التفاوض. وعندها سوف أعرض ذلك على (جانبنا) ونرى بعد ذلك إذا ما كان من الممكن التفاوض."
وقال بلير لهيلاري إن تعيين مفاوض من قبل القذافي يستوجب اقتناص الفرصة لإيجاد حلّ، واصفاً "اليد اليمنى" بأنه شخص عاقل ومستمع جيد وأن لديه ضوء أخضر من القذافي. ويعتقد بلير، حسبما جاء في رسالته، أن القذافي سوف يقبل بالتنحي عن السلطة ولكن بطريقة غير مذلة..