إن الإنسان، أياً كان، بحاجة إلى "الفهم".. بحاجة لأن يفهم الأحداث من حوله و يفهم كلام الآخرين: كلام الأستاذ والمعلم، كلام العمدة أو النائب أو الوزير، كلام المدون ... الإنسان بحاجة "للفهم"، و إلّا كان مثل العميان. هذه الحقيقة نعلمها جميعًا؛ و لكن هناك حقيقة أخرى نتجاهلها أحيانا ؛ وهي حاجتنا "للتفاهم" ..
أقصد التفاهم بين البشر.
التفاهم بيننا، بين الأجيال، بين اللغات، بين الفئات، بين الجيران، بين الطبيب ومريضه، بين الأستاذ و تلميذه، بين رب العمل و العامل، إلخ...
نتجاهل حاجتنا إلى فهم الآخر؛ أعني الشخص القريب والشخص البعيد، والشخص المشابه والشخص المختلف. وهذا التفاهم بات أمرًا ضروريًا وملحًا نظرا لما ينتشر من "سوء التفاهم" في جميع مناحي الحياة، في الأسرة وفي المدرسة وفي المكاتب وفي المزارع وفي الأسواق وفي المساجد وبين الجيران، إلخ..
ومن المفارقات العجيبة أن "سوء التفاهم" هذا يتسع وينتشر على الرغم من أن الجميع يقول إننا في عصر "الفهم" و "المعرفة"..
معنى ذلك أن "الفهم" لا يفضي حتمًا إلى "التفاهم"، و "المعرفة" لا تفضي حتمًا إلى "التعارف". صحيح أننا اليوم نعيش عصر التواصل والاتصال؛ وصحيح أن كل شيء في عالم اليوم يدفع إلى التواصل والتلاقي والتعارف: وسائل الإعلام، الهواتف الذكية، الإنترنت، شبكات التواصل الاجتماعي، إلخ...
و مع ذلك، لا تفاهم دائم ولا تعارف متواصل! لماذا؟ لأن الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي و المدرسة و الأسرة والحياة لا تنقل لنا - غالبًا - ما يخدم التفاهم والتعارف؛ بل تنقل لنا غثاء كغثاء السيل يدك مسامعنا بسرعة هائلة، ولا نجد لأنفسنا دقيقة لالتقاط الأنفاس والتفكير والتدبر؟ ..
* ما هو الحل؟ الحل الأمثل - في نظري - المتواضع هو أن نبني جسورًا وطرقات للربط بين الإنسان و الإنسان.
فبقدر ما نطالب بإصلاح الطرقات الرابطة بين المدن علينا أن نطالب بإصلاح طرقات التآلف والتراحم بين سكان هذه المدن، بين الضمائر والمشاعر والأفكار وإصلاح ذات البين وتعزيز الوحدة الوطنية. فبقدر ما حرصنا على بناء جسر رابط بين ضفتي النهر علينا أن نبني جسرا للتعارف والتآلف بين سكان البلدين والتراحم بينهم وبين الأهالي في الضفتين..
علينا أن نبدأ في بناء أو على الأصح في ترميم هذه الجسور والممرات والطرقات، ونرفع على جنباتها لافتات مرور مضيئة ومنارات إنسانية ودعائم قانونية لا نضل معها ولا نشقى. هذه الطرقات موجودة فطريا وتاريخيا؛ إنما تحتاج فقط إلى إعادة بناء و ترميم و أعمال صيانة..
لا خير في "فهم" لا يفضي إلى "تفاهم"، ولا خير في "معرفة" لا تفضي إلى "تعارف".
قد يقول معلق إن هذا مجرد كلام إنشائي؛ فأقول له: صدقت، لكنه مع ذلك قابل لأن يتحول إلى فعل مفيد متى حصل الاقتناع به و بدأ إنجازه. و الطرق أو الجسور المطلوب بناؤها بين القلوب ما هي إلاّ كسائر الطرقات والجسور على الأرض تحتاج فقط إلى مهندسين و بناة و مختبرات و آليات و ضوابط..
والمهندسون هنا هم الإدارة والأئمة والعلماء والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني واتحادات المثقفين والشباب خاصة، والمختبرات و الآليات هي مؤسسة الأسرة والمسجد والمدرسة والجامعة والشارع؛ والضوابط هي القوانين والسهر على تطبيقها ومراعاة الأخلاق والقيم والتراث الثقافي و المصير المشترك. وفقنا الله جميعا لما فيه خير البلاد والعباد.
من صفحة محمد فال ولد بلال