سيتم تخصيص هذه الحلقة من سلسلة "معا لتفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني" للرد على بعض"خبراء" أو "فقهاء" ترتيب الأولويات، والذين كثيرا ما يعلقون على مناشيري بتعليقات مفادها أن الاهتمام باللغة الرسمية واللغات الوطنية أمرٌ مهمٌ، ولكن ترتيب الأولويات يقتضي تركه إلى حين، والتفرغ لقضايا أكثر أهمية وأكثر إلحاح كارتفاع الأسعار وانقطاع الماء والكهرباء.
دعونا نفكر بعقولنا..
دعونا ننظر إلى الأمور نظرة إستراتيجية..
دعونا نرتبها حسب درجة الأولوية والإلحاح..
إذا فعلنا ذلك بحق، فسنجد ـ ودون عناء فكري كبير ـ أن ترتيب الأولويات يقتضي الاهتمام في مثل هذا الوقت بالذات بقضية اللغة، وترك الأمور الأخرى إلى حين.
كيف؟
ماذا تقول يا هذا؟
لنفترض جدلا أن ترتيب من تم وصفهم ب"خبراء" الأولويات هو الترتيب الأسلم، الشيء الذي يستوجب ترك قضية اللغة جانبا، والتي هي مسألة جوهرية جدا في إصلاح النظام التربوي، والتفرغ لقضايا أخرى أكثر أولوية كالمطالبة بخفض الأسعار أو وقف انقطاعات الكهرباء والماء. دعونا نفترض أننا تفرغنا لتلك المطالب وتمكنا بالفعل من فرض تخفيض أسعار بعض المواد الأساسية، ووقف انقطاعات الكهرباء والماء في بعض مدننا.
هذا شيء جيد تماما، لاشك في ذلك.
ودعونا نفترض كذلك أن الأيام التشاورية حول التعليم أبقت الحال على ما كان عليه، وأن التشاور الوطني الشامل لم يأت بجديد بخصوص قضية لغة التدريس وتعريب الإدارة.
ستكون نتيجة كل هذا في المحصلة النهائية هي أننا بعد عشر سنوات سنجد أن حال هذه البلاد قد ازداد سوءا، وأن مشاكل الماء والكهرباء والأسعار ما تزال مطروحة وبإلحاح أكبر.
وسنجد ـ وهذه هي الكارثة الكبرى ـ أننا سرقنا أعمار أجيال كاملة من أبناء هذا الوطن درست في ظل نظام تربوي مختل كان من الممكن إصلاحه في ظرفية كهذه، ولكن "خبراء" ترتيب الأولويات اختاروا أن ينشغلوا بمشاكل أخرى رغم أهميتها وإلحاحها إلا أنها يمكن أن تطرح في كل حين.
لن يصلح حال هذه البلاد في أي مجال من مجالات الحياة إذا لم نصلح نظامنا التربوي..هذه حقيقة أولى . الحقيقة الثانية هي أن الفرصة المتاحة الآن لإصلاح النظام التربوي لن تتاح مرة ثانية من قبل عقد أو عقدين من الزمن على الأقل، ذلك أن الإصلاحات التربوية لا يمكن أن تجرب كل سنة، ولا حتى كل خمس سنوات، فهي تحتاج على الأقل لعقدين من الزمن.
أما الحقيقة الثالثة فهي أن خفض الأسعار ووقف انقطاع الكهرباء والماء إذا لم نطالب به في هذه الأيام، فيمكن أن نطالب به غدا أو في الشهر القادم، أو في السنة القادمة، فهذه مطالب يمكن أن تُطرح في كل حين.
نحن أمامنا اليوم فرصة ثمينة قد لا تتكرر خلال العقدين القادمين، وهي فرصة أتاحها التشاور حول إصلاح التعليم، والتشاور الوطني الشامل، وعلينا أن لا نضيع هذه الفرصة.
صحيح أن مشاكل التعليم كثيرة ومعقدة، ولكن تبقى لغة التدريس واحدة من أهم تلك المشاكل، وصحيح أيضا أن مشاكل الإدارة كثيرة ومعقدة وأن تقريب الإدارة من المواطن يحتاج لجهد كبير، ولكن هذا الجهد يجب أن يبدأ بمخاطبة المواطن بلغة دستوره التي يفهمها أو يفترض فيه أنه يفهمها ..لكل ذلك فإن ترتيب الأولويات السليم يقتضي أن يتم الاهتمام بقضية اللغات في مثل هذا الوقت بالذات، ثم إنه لم يعد من المقبول بعد مرور أكثر من ستة عقود على استقلال البلاد، وأكثر من ثلاثة عقود على التصديق على دستورنا الحالي الذي حصر اللغة الرسمية في اللغة العربية، لم يعد مقبولا بعد هذا كله أن يبقى بلدنا بلا هوية مجمع عليها، وبلا لغة رسمية معترف بها نظريا وعمليا، ففي الوقت الحالي فأن اللغة الرسمية لموريتانيا من الناحية النظرية هي اللغة العربية أما من الناحية العملية فهي اللغة الفرنسية.
هذا التناقض الغريب لم يعد مقبولا، ويجب أن يتوقف بشكل نهائي...ونحن الآن أمامنا فرصة ثمينة للخروج بتوصيات محل إجماع أو شبه إجماع توقف العمل بهذا التناقض الغريب.
حفظ الله موريتانيا...