دركي شاب لبق ومحترم، يقف عند بوابة مطار نواكشوط الدولي، لا تظهر ملامحه أي نوع من القلق حيال ما يجري داخل المطار، يرد حين نسأله عن حقيقة ما يجري: «أنتم الصحافة، والأخبار عندكم»، يبتسم وينسحب بهدوء، قبل أن يحذر من التقاط أي صور بالهواتف أو الكاميرات، فيما كانت شاشات القنوات الإخبارية الدولية تكتب بخط أحمر بارز: «أمريكي يقتحم طائرة في نواكشوط ويهدد بتفجيرها».
الوضع يغلي على مواقع التواصل الاجتماعي، وبرقيات وكالات الأنباء العالمية تترى حول الخبر الوارد من مدينة هادئة، إن لم تكن نائمة، أما في المطار فلا شيء يوحي بأن هنالك ما يستحق هذا الزخم؛ بل إن واحدًا من عناصر الدرك الثلاثة المرابطين عند بوابة المطار، رد على صحفي حين ألح عليه بالسؤال: «أوووه.. لقد مر على الحادث وقت طويل..»، ثم صمتْ !
بعد ساعات من الانتظار والترقب، بدأت الرواية الرسمية تتشكل، فاختفى «الأمريكي» وتبعته «التهديدات بالتفجير»، وغاب أي حديث عن «مشاكل مع الحكومة»، واختزلت كل الزوبعة في فنجان شاب، يعاني من اضطرابات نفسية، تسلل نحو الطائرة دون أي مشاكل.
بدأت الرواية الرسمية مع بيان لشركة الموريتانية للطيران تقول فيه إن الأمر لم يتجاوز «وجود شخص دون مسوغ مهني» داخل إحدى الطائرات، وأضافت أن هذا الشخص دخل المطار صباح الخميس بعد أن «تظاهر بالارتباط بإحدى شركات الخدمات العاملة بمطار نواكشوط الدولي أم التونسي».
وتعززت هذه الرواية بعد صدور بيان عائلة الشخص المعني، والتي قالت إنه «حاول التسلل إلى الطائرة والاختباء بها طمعا في أن يختلط بالمسافرين ويتمكن من الهجرة»، نافية بشكل قاطع كونه مسلحًا.
وكانت خاتمة بناء الرواية الرسمية مع وزير التجهيز والنقل الذي ظهر على القناة الرسمية، ليقول إن الأمر يتعلق بمواطن «موريتاني» يعاني من «مشاكل نفسية»، دون أن يكشف هويته، ولكنه ترك الظن يذهب إلى نفس الشخص الذي حددته عائلته.
ولكن الرواية الرسمية تترك العديد من الأسئلة عالقة في الأذهان دون إجابة، أغلبها حول مستوى الأمن والسلامة في مطار نواكشوط الدولي، خاصة وأن وزير النقل تحدث عن «اختلالات» وعن فتح «تحقيق مستقل».
كيف دخل المطار ؟
كان ذلك أول سؤال طُرح.. كيف حصل ذلك الشاب على شارة شركة الخدمات العاملة في المطار، التي تحدثت عنها «الموريتانية للطيران»، في حين تؤكد مصادر عليمة بمعايير الأمن والسلامة في المطارات أن هذه «الشارة» ليست بتلك السهولة، وإنما يتطلب «تزويرها» أو «استنساخها» مستوى معينًا من الخبرة، وجهدًا في جمع المعلومات.
بل إن أفراد الأمن المكلفون ببوابة دخول المطار، غالبًا لا يكتفون بالاعتماد على «الشارة» وحدها، وإنما يستخدمون ذاكرتهم لتحديد أي غريب أو عامل جديد، قد يلفت انتباههم، فكيف نجح هذا الشاب «المضطرب» في الحصول على الشارة وتجاوز الأمن، إن لم يكن هنالك تهاون ؟!
كيف وصل إلى الطائرة ؟
حتى وإن نجح الشاب في عبور بوابات المطار والدخول إليه، وتجاوز كل العقبات، يبقى سؤال عالق حول الطريقة التي وصل بها إلى الطائرة، خاصة وأن الطائرة لم تكن مربوطة بأي سلالم، وإنما كان «ممر العبور» الممتد من قاعة الانتظار نحو الطائرة، هو السبيل الوحيد لذلك.
ولكن قواعد الأمن والسلامة تنص على ضرورة تحريك هذا «الممر» وإبعاده عن الطائرة المتوقفة، خاصة حين يكون توقفها طويلًا.
حسب الرواية الرسمية فإن الشاب حين تسلل إلى المطار وصل مباشرة إلى الطائرة، وهو ما يعني أنه وجد أمامه «ممر العبور» مفتوحًا ومربوطًا بالطائرة المفتوحة هي الأخرى، لتقع الكثير من الصدف في نفس الوقت ونفس المكان.
لماذ بقي ممر العبور ؟
تشير المعطيات الأولية إلى أن هذا من الأسئلة الجوهرية التي يتوقع أن يجيب عليها «التحقيق المستقل» الذي أعلنت عنه الحكومة، فهنالك طرفان في هذا الخلل، هما شركة الموريتانية للطيران التي تتبع لها الطائرة، وشركة أفروبورت التي يتبع لها الممر.
تقول نظم الأمن والسلامة في المطارات إن الفني المشرف على الطائرة، هو من تقع عليه مسؤولية إبلاغ الشركة المسيرة للمطار بالاستغناء عن «ممر العبور»، لتحريكه بعيدًا عن الطائرة حين تكون في حالة توقف مستمر لعدة ساعات.
فهل نفذ الفني مهمته، وإن كان قد نفذها، فهل استجابت الشركة المسيرة لطلبه، وإن كانت قد استجابت، فلماذا الرواية المقدمة من طرف «الموريتانية للطيران» تفترض أن الممر بقي ممتدًا حتى الطائرة ؟! والأهم: كيف وصل الشاب إلى الطائرة ؟
كيف تواصل مع برج المراقبة ؟
المعلومات المؤكدة تفيد بأن «الشخص المجهول» الذي اقتحم الطائرة أغلق عليه بوابة قمرة القيادة وشغل الطائرة، قبل أن يتحدث مع برج المراقبة ويبلغهم أنه أمريكي الجنسية وأن لديه مشكلة مع الحكومة، على الرغم من أن الجهات الرسمية تفادت الإشارة إلى ذلك، في حين نفته رواية العائلة التي قالت إنه كان ينوي «الاختباء طمعا في أن يختلط بالمسافرين».
ولكن مصادر داخل المطار أكدت أن أحد الفنيين خلال جولة صباحية على المدرج، لاحظ أن كهرباء الطائرة مشغلة وأنوارها مضاءة، وهو أمر غير مألوف أثار شكوكه حول إمكانية وجود متسلل، قبل أن يشاهد شخصًا يتحرك بداخلها.
وتضيف المصادر أن هذا الفني عطل على الفور بطارية الطائرة، لمنع المتسلل من محاولة التحليق بها واختطافها.
وهنا تبرز أسئلة كبيرة، حول الشاب الذي تحدثت عنه الرواية الرسمية، فليس من البديهي بالنسبة لشاب يعاني من اضطرابات نفسية، ولم يسبق له أن عمل في أي مطار، أو في أي مجال قريب من الطيران المدني، أن يغلق قمرة القيادة ويشغل طائرة ثم يتواصل مع برج المراقبة !!
إنها أمور لا يمكن للكثير من العاملين في المطار القيام بها، يقول أحد المختصين في الطيران المدني.
نقلا عن صحراء ميديا