العلم والعلماء بين الفتنة والسلطان
الثلاثاء, 13 أكتوبر 2015 16:23

د/ محمد المختار دية الشنقيطيد/ محمد المختار دية الشنقيطيلقد كان العلم عند علماء الأمة من السلف الصالح– رحمهم الله- طاعة فاعلة ومؤثرة تحقق المقصود والمدلول الشرعي في عالم الواقع، وتسعى إلى بسط المنهج الإسلامي الوسطي الذي هو التزام الحق، وبناء مجتمع تتمثل فيه العقيدة، طاقة تنشئ وتعمر، وتغير وتطور، فلا تداهن ولا تميع ولا تحرف ولا

تنتحل ولا تؤول التأويل الفاسد، فكان بذلك أولئك الأفذاذ من العلماء قادة خير، ومنارات هدى، وسياجاً منيعاً يتحطم عليه انتحال المبطلين وانحراف المنحرفين وتأويل الزائغين،وهم بهذا المنهج وتلك المواقف يصدون كل من تسول له نفسه الانحراف أو يجمح به هواه .

 

وقد ظلت لتلك النماذج الفريدة من علماء الأمة، وإلى عهد قريب حساسية فائقة تجاه الحكام باعتبارهم يتحكمون بمصير الأمة، فلم يتهاونوا معهم إذا ما بدر منهم أدنى تقصير أو تفريط أو انحراف، بل كانوا يتصدون لانحرافهم وفساد غيرهم من بدايته بالحكمة والموعظة الحسنة حيناً-والحكمة هي قول أو فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي-، والتعنيف والترهيب حيناً آخر-امتثالاً ل"كلمة حق عند سلطان جائر"-، وكان لهذا النهج دور كبير في الحد من طغيان الحكام وإيقاظ ضمائرهم والحفاظ على جماعة المسلمين من الانحراف المهلك والتزوير المضلل، الذي لم يقع فيه أفراد الأمة إلا حين رفع العلماء أيديهم عن وظيفتهم، وتراجعوا عن واجبهم ومسؤولياتهم الشاملة، وحصروها فيما يسمى اليوم: بالعبادات والفرائض، وتنكبوا باقي قيم الدين وشعب الإيمان، إن لم يقعوا في تزويرها وتحريفها وحرب المتشبثين بها، واستسلموا وأسلموا أنفسهم لسلاطين جائرين تكبروا في الأرض بغير الحق واتخذوا سبيل الغي سبيلا موالاة وعمالة للكفار وأعداء الأمة وحرباً لأهل الحق والإيمان، فأصبح والحالة هذه من اللازم على أفراد الأمة أن يمارسوا دور القيوم الناصح، والأخذ على يد الظالم وأطره على الحق اطراً كما يوجب الهدي النبوي وهو ما دعا إليه القرآن قال تعالى :{حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} سورة الأنفال، الآية : 39.

وقال تعالى:{ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} سورة الحج، الآية: 41.

وقال:{ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا }سورة البقرة، الآية : 256. فالطاغوت في اللغة: مجاوزة الحد ، وشرعاً: هو كل من جاوز حده من معبود أو متبوع أو مطاع برضاه .

والكفر بالطاغوت هو: نفي استحقاق العبادة عن غير الله وجهاد وبغض الكفر والشرك والمعصية قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}. الزخرف: 26 وفي قراءة سبعية ﴿ إِنَّنِي بَريءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}. 

وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} .الممتحنة: 4 .

ورؤوس الطواغيت كما يقول المفسرون خمسة:

الأول الشيطان : فهو الداعي الأول للكفر والشرك والمعصية، وكل شر في الأرض فهو سببه، قال تعالى:{ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ لاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } سورة ص ، الآيات : 82-83.

الرأس الثاني : كل من دعا الناس لعبادة غير الله قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} سورة القصص، الآية: 38 .

الرأس الثالث: كل من عبد مع الله ورضي- والعبادة هي: الخضوع والانقياد لغير شرع الله وصرف شيء مما هو حق لله لغيره كالتشريع وتقديم الشعائر، قال تعالى:

{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }[يوسف:40.

  الرأس الرابع: كل من ادعى علم الغيب قال تعالى:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}.

الرأس الخامس: الحاكم الذي يستحل الحكم بغير ما أنزل الله، قال تعالى:{ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا} سورة النساء، الآية: 60 . وقال: { ْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ به الله}.

يقول الأستاذ سيد قطب : رحمه الله وطيب ثراه ونوّر ضريحه وأسكنه فسيح جناته  فى ظلال قوله تعالى:{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } سورة يوسف، الآية 40.

إن الحكم لا يكون إلا لله . فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته ، إذ الحاكمية من خصائص الألوهية . فمن ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته :سواء ادعى هذا الحق فرد , أو طبقة ,أو حزب . أو هيئة ,أو أمة , أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية . ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفرا بواحا , يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة , حتى بحكم هذا النص وحده ! وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم , وتجعله منازعا لله في أولى خصائص ألوهيته - سبحانه -فليس من الضروري أن يقول: ما علمت لكم من إله غيري ; أو يقول: أنا ربكم الأعلى، كما قالها فرعون جهرة ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية ، ويستمد القوانين من مصدر آخر . وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية , أي التي تكون هي مصدر السلطات ، جهة أخرى غير الله سبحانه . . ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية . 

والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله، ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته . 

إنما مصدر الحاكمية هو الله . وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة .فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده . والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه،  أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية , وما أنزل الله به من سلطان . .

وهكذا نزلت الآيات القرآنية هادية لهذه المعاني وناصبة لمعالم طريق الحق الذي يجب على العلماء سلوكه:

المعلم الأول: قال تعالى:{ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}سورة النساءالآية ، الآية : 107 . 

المعلم الثاني: قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}- سورة الأنفال، الآية :27 .

المعلم الثالث:{ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} - النساء، الآيات :107-108.

  المعلم الرابع: ففى الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّث كذب، وإذا وَعَد أخلف، وإذا اؤتمن خان". وفى حديث آخر:" على كل خُلُق يطبع المؤمن إلا الخيانة والكذب".

المعلم الخامس: قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . سورة المائدة، الآية : 51.

ومعنى الآية : قال القاسمي في محاسن التأويل : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ـ أي: لا يتخذ أحد منكم أحدا منهم وليّا، بمعنى: لا تصافوهم ولا تعاشروهم مصافاة الأحباب ومعاشرتهم، قال المهايميّ: إذا كان تودد أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقصد افتتانه عن بعض ما أنزل الله مع غاية كماله، فكيف حال من يتودد إليهم من المؤمنين؟... بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ـ إيماء إلى علة النهي، أي: فإنهم متفقون على خلافكم، يوالي بعضهم بعضا لاتحادهم في الدين، وإجماعهم على مضادتكم، فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم؟! وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ـ أي: من جملتهم، وحكمه حكمهم وإن زعم أنه مخالف لهم في الدين، فهو بدلالة الحال منهم لدلالتها على كمال الموافقة...: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ـ يعني: الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة. اهـ.

وقال ابن عطية في المحرر الوجيز: نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة، وحكم هذه الآية باق، وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ـ وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة، فلا تدخل في النهي، وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهوديا ورهنه درعه. اهـ.

فحكم الآية باق إلى عصرنا هذا وما بعده، ولكن لابد من مراعاة أن هذه الموالاة المنهي عنها، منها ما يكون معصية فقط، ومنها ما يصل إلى الكفر.

المعلم السادس: قال تعالى:{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } - سورة هود، الآية : 113.

فمعنى الآية : لا تَسكُنوا إلى أهلِ الظُّلمِ ولا تَرضَوا بظُلمِهم، ولا تَميلوا إلى الجَبّارينَ الطُّغاةِ الذينَ يَظلِمونَ عبادَ الله، ولا تَستَعينُوا بهم، ولا تَستَنِدوا إليهم، فتَكونوا كأنَّكمْ قدْ رَضِيتُمْ بأعْمالِهم، ويكونُ ركونُكمْ إليهمْ إقرارًا لهمْ على ما يُزاوِلونَهُ منْ ظُلمٍ ومُنكَر .

وقالَ القاضي البيضاويُّ في تفسيرِه : لا تَميلوا إليهمْ أدنَى مَيل، فإنَّ الركونَ هوَ المَيْلُ اليَسير، كالتزَيِّي بزِيِّهم، وتَعظيمِ ذِكرِهمْ واستِدامَتِه.اهـ.

وقالَ صاحِبُ "روح المعاني : فما ظنُّكَ بمَنْ يَميلُ إلى الراسِخينَ في الظُّلمِ كُلَّ المَيل، ويَتهالَكُ على مُصاحَبتِهمْ ومُنادَمتِهم، ويُتعِبُ قَلبَهُ وقالَبَهُ في إدخالِ السُّرورِ عَليهم، ويَستَنهِضُ الرِّجْلَ والخَيلَ في جَلبِ المَنافِعِ إليهم، ويَبتَهِجُ بالتزَيِّي بزِيِّهم، والمُشارَكةِ لهمْ في غَيِّهم، ويَمُدُّ عَينَيهِ إلى ما مُتِّعوا بهِ مِنْ زَهرَةِ الدُّنيا الفانيَة، ويَغبِطُهمْ بما أُوتُوا مِنَ القُطوفِ الدانيَة، غافِلاً عنْ حَقيقَةِ ذلك، ذا هِلاً عنْ مُنتَهى ما هُنالِك !.

وقال : ويَنبَغي أنْ يُعَدَّ مِثْلُ ذلكَ مِنَ الذينَ ظَلَموا لا منَ الرَّاكنينَ إلَيهم، بِناءً على ما رُوِيَ أنَّ رَجُلاً قالَ لسُفيان: إنِّي أَخيطُ للظلَمَة، فهلْ أُعَدُّ مِنْ أعوانِهم؟ فقالَ له : لا، أنتَ منهم، والذي يَبيعُكَ الإبرَةَ مِنْ أعوانِهم! اهـ فإذا فَعَلتُمْ ذلكَ تُصيبُكمُ النارُ بسَبَبِه وليسَ لكمْ مِنْ دونِ اللهِ أنصارٌ يَمنَعونَ العَذابَ عنكمْ إذا قّدَّرَهُ عليكم، ولا تَجِدونَ مَعونَةً منْ عندِ اللهِ لإنقاذِكمْ مِنَ العَذاب، فقدْ سَبقَ في حُكمهِ تعالَى أنْ يُعَذِّبَكم؛ لمِيْلِكمْ إلى الظَّالمين...

المعلم السابع: قال َعَالَى : { وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمْ النَّار وَمَا لَكُمْ مِنْ دُون اللَّه مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَلَا تَمِيلُوا أَيّهَا النَّاس إِلَى قَوْل هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاَللَّهِ , فَتَقْبَلُوا مِنْهُمْ وَتَرْضَوْا أَعْمَالهمْ, فَتَمَسّكُمْ النَّار بِفِعْلِكُمْ ذَلِكَ, وَمَا لَكُمْ مِنْ دُون اللَّه مِنْ نَاصِر يَنْصُركُمْ وَوَلِيّ يَلِيكُمْ .{ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } يَقُول: فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَمْ يَنْصُركُمْ اللَّه, بَلْ يُخَلِّيكُمْ مِنْ نُصْرَته وَيُسَلِّط عَلَيْكُمْ عَدُوّكُمْ . 

14333- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى, قَالَ : ثَنَا عَبْد اللَّه, قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَة, عَنْ عَلِيّ, عَنْ اِبْن عَبَّاس, قَوْله :{ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمْ النَّار}يَعْنِي: الرُّكُون إِلَى الشِّرْك.

14334 - حَدَّثَنَا اِبْن وَكِيع, قَالَ: ثَنَا اِبْن يَمَان, عَنْ أَبِي جَعْفَ, عَنْ الرَّبِيع, عَنْ أَبِي الْعَالِيَة:{ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } يَقُول: لَا تَرْضَوْا أَعْمَالهمْ .

- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى, قَالَ: ثَنَا إِسْحَاق , قَالَ: ثَنَا اِبْن أَبِي جَعْفَر, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ الرَّبِيع, عَنْ أَبِي الْعَالِيَة:{ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } يَقُول: لَا تَرْضَوْا أَعْمَالهمْ, يَقُول: الرُّكُون الرِّضَا- حَدَّثَنَا الْقَاسِم, قَالَ : ثَنَا الْحُسَيْن, قَالَ : ثني حَجَّاج , عَنْ أَبِي جَعْفَر, َنْ الرَّبِيع ,عَنْ أَبِي الْعَالِيَة, فِي قَوْله:{ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا }قَالَ: لَا تَرْضَوْا أَعْمَالهمْ فَتَمَسّكُمْ النَّار.

14335- حَدَّثَنَا الْقَاسِم, قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْن, قَالَ: ثني حَجَّاج, عَنْ اِبْن جُرَيْج: { وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } قَالَ : قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَلَا تَمِيلُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.

14336 - حَدَّثَنَا بِشْر, قَالَ: ثَنَا يَزِيد, قَالَ: ثَنَا سَعِيد, عَنْ قَتَادَة , قَوْله :{ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمْ النَّار } يَقُول : لَا تَلْحَقُوا بِالشِّرْكِ , وَهُوَ الَّذِي خَرَجْتُمْ مِنْهُ 14337 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله : { وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمْ النَّار } قَالَ : الرُّكُون : الْإِدْعان . وَقَرَأَ : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِن فَيُدْهِنُونَ } قَالَ : تَرْكَن إِلَيْهِمْ , وَلَا تُنْكِر عَلَيْهِمْ الَّذِي قَالُوا : وَقَدْ قَالُوا الْعَظِيم مِنْ كُفْرهمْ بِاَللَّهِ وَكِتَابه وَرُسُله .

قَالَ : وَإِنَّمَا هَذَا لِأَهْلِ الْكُفْر وَأَهْل الشِّرْك وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْإِسْلَام , أَمَّا أَهْل الذُّنُوب مِنْ أَهْل الْإِسْلَام فَاَللَّه أَعْلَم بِذُنُوبِهِمْ وَأَعْمَالهمْ , مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُصَالِح عَلَى شَيْء مِنْ مَعَاصِي اللَّه وَلَا يَرْكَن إِلَيْهِ فِيهَا .

والركون هو الميل والسكون والمودة والرحمة، وأنت إذا ركنت للظالم؛ أدخلت في نفسه أن لقوته شأناً في دعوتك.

والركون أيضاً يعني: المجاملة، وإعانة هذا الظالم على ظلمه، وأن تزِّين للناس ما فعله هذا الظالم.

وآفة الدنيا هي الركون للظالمين؛ لأن الركون إليهم إنما يشجعهم على التمادي في الظلم، والاستشراء فيه. وأدنى مراتب الركون إلى الظالم ألا تمنعه من ظلم غيره، وأعلى مراتب الركون إلى الظالم أن تزين له هذا الظلم؛ وأن تزين للناس هذا الظلم.

وأنت إذا استقرأت وضع الظلم في العالم كله لوجدت آن آفات المجتمعات الإنسانية إنما تنشأ من الركون إلى الظالم؛ لكنك حين تبتعد عن الظالم، وتقاطعه أنت ومن معك؛ فلسوف يظن أنك لم تُعرْض عنه إلا لأنك واثق بركن شديد آخر؛ فيتزلزل في نفسه؛ حاسباً حساب القوة التي تركن إليها؛ وفي هذا إضعاف لنفوذه؛ وفي هذا عزلة له وردع؛ لعله يرتدع عن ظلمه.

والركون للظالم إنما يجعل الإنسان عرضة لأن تمسه النار بقدر آثار هذا الركون؛ لأن الحق سبحانه يقول: { وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } - سورة هود، الآية : 113.

والخارج عن تلك القيم والمجافي للانضباط بهذه المعالم هو الذي يمكن وصفه بالتطرف ونعته بالرويبضة لخلافه لمحكمات آي القرآن وصحاح الحديث وعمل أفذاذ علماء الأمة . نماذج العلماء الصامدين عند الامتحان القادرين على العطاء في البلاء ومنارات الهدى للأحياء والخالد ين المزاحمين الشهداء بمداد الأقلام الرافعين في الحياة لواء الكرامة شعارهم في مقارعة الطغاة : ((ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون )) الثائرين على الظلم والطغيان والتجبر ؟!. ونحن في هذه المقالات مظهرون إن شاء الله لمواقف كوكبة من أعلام أئمة الأمة من الحكام والثائرين عليهم من أمثال : الإمام أبي حنيفة النعمان- الإمام مالك ؟. الإمام أحمد – الإمام حي بن يعمر- الإمام الأوزا عي- الإمام عمرو بن عبيد - الإمام عمر بن هبيرة –الإمام الحسن البصري- الإمام حطيطً الزيات – الإمام العز بن عبد السلام.

1- عمر بن هبيرة والحسن البصري :

لما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق، وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدا بالسمع والطاعة، وقد ولآني ما ترون، فيكتب إلي بالأمر من أمره، فأنفذ ذلك الأمر، فما ترون؟

فقال ابن سرين والشعبي قولا فيه تقية، قال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال : يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله! إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيدا لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة، إن تعص الله فإنما جعل الله السلطان نا صراً لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده لسلطان، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .

2- الأوزاعي وعبد الله بن علي العباسي .

عندما قدم عبد الله بن علي العباسي الشام، وقد قتل من قتل من بني أمية بعد ذهاب دولتهم، استدعى الإمام عبد الرحمن الأوزاعي، وهو في جنده وحشمه، وقال له: " ما تقول في دماء بني أمية؟ قال الأوزاعي: قد كان بينك وبينهم عهود، وكان ينبغي أن تفي بها. قال الأمير العباسي: ويحك! اجعلني وإياهم لا عهد بيننا. قال الإمام: فأجهشت نفسي وكرهت القتل، فتذكرت مقامي بين يدي الله تعالى فلفظتها، وقلت: دماؤهم عليك حرام. فغضب الأمير وانتفخت عيناه وأوداجه، فقال: ويحك! ولم؟ أو ليس كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو صى لعلي؟ فقلت: لو أوصى لعلي ما حكم الحكمين؟! فسكت وقد اجتمع غضبه، فجعلت أتوقع رأسي يسقط بين يديه، فأشار بيده هكذا، وأومأ أن أخرجوه.. فخرجت . 3 – حطيطً الزيات والحجاج:

وروي أن حطيطاً الزيات جيء به إلى الحجاج، فلما دخل عليه قال: أنت حطيط؟ قال: نعم، سل عما بدالك، فإني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال: إن سئلت لأصدقن، وإن أبتليت لأصبرن، وإن عوفيت لأشكرن.

قال: فما تقول في؟ قال: أقول إنك من أعداء الله في الأرض، تنتهك المحارم وتقتل بالظنة، قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال: أقول إنه أعظم جرما منك ، وإنما أنت خطيئة من خطاياه. فقال الحجاج: ضعوا عليه العذاب، وما زالوا يعذبونه وما سمعوه يقول شيئاً، فقيل للحجاج: إنه في آخر رمق. فقال: أخرجوه فارموابه في السوق. وقال الراوي واسمه جعفر: فأتيته أنا وصاحب له، فقلنا له: حطيط، ألك حاجة؟ قال: شربة ماء. فأتوه بشربة، ثم مات. وكان رحمه الله ابن ثماني عشرة سنة .

4 - سفيان الثوري وأبي جعفر المنصور

وعن سفيان الثوري قال: أدخلت على أبي جعفر المنصور بمنى، فقال لي: ارفع إلينا حاجتك فقلت له: اتق الله فقد ملأت الأرض ظلماً وجوراً. قال: فطأطأ رأسه ثم رفعه، فقال: ارفع إلينا حاجتك. فقلت: إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعاً، فاتق الله وأو صل إليهم حقوقهم.

فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك. فقلت: حج عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهما، وأراها هنا أموالاً لا تطيق الجمال حملها.. وخرج .

 

5- العز بن عبد السلام والملك إسماعيل

 

وعندما حالف الملك إسماعيل الصليبين وسلم لهم صيدا وغيرها من الحصون الإسلامية، وذلك لينجدوه على نجم الدين بن أيوب ملك مصر، أنكر سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام أنذالك هذه الفعلة، وحاسب الملك عليها من على المنبر يوم الجمعة، وذمٌ الملك وقطع الدعاء له من الخطبة، فأخبر الملك بذلك، فورد كتابه بعزل ابن عبد السلام عن الخطبة واعتقاله ومنعه من الإفتاء في الناس، ثم بعث إليه يعده ويمنيه، فقال له الرسول: تٌعاد إليك مناصبك وزيادة، وما عليك إلا أن تنكسر للسلطان، فما كان جواب الشيخ إلا أن قال: والله ما أرضاه أن يقبل يدي، يا قوم أنتم في واد وأنا في واد .

 

عندما غزا التتار بلاد الإسلام وسقطت بغداد- وما أشبه الليلة بالبارحة- وفعلوا فيها الأفاعيل وقبل أن ينصر الله المسلمين عليهم، وقفت امرأة كافرة لتسأل أحد الشيوخ المسلمين باستهزاء قائلة: لماذا وأنتم مسلمون وتزعمون أن إلهكم معكم وتدعونه فيستجيب لكم: لماذا لم ينصركم وترككم للتتار ليفعلوا ما فعلوه بكم؟ فأجاب الشيخ الواثق من الله تعالى والعالم بأمراض الأمة:

 

ألا تعرفين راعي الغنم؟ قالت: بلى-قال: ألا يكون مع قطيعه بعض الكلاب؟ قالت بلى!! قال: ماذا يفعل الراعي إذا شردت بعض أغنامه وخرجت عن سلطانه؟ قالت: يرسل عليها كلابه لتعيدها إلى سلطانه!! قال: وإلى متى تستمر في مطاردتها؟ قالت: ما دامت الأغنام شاردة عنه!! قال: فأنتم أيها التتار وأمثالكم: كلاب الله في أرضه!! وطال ما بقينا شاردين عن منهج الله وطاعته: فستطاردوننا حتى نعود إليه!!

وللذين لا يفهمون متلازمة الدعاء وإجابته مع أقدار الله ومشيئته وتصريفه للأمور: فعندما دعا موسى وأخوه هارون- عليهما وعلى نبينا السلام- على فرعون وملأه: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}، جاءت الآية التالية لتبين أن الله استجاب لدعائهما:{ قال قد اجيبت دعوتكما}، ولكننا نعلم من كتب التفسير وشواهد التاريخ أن تلك الاستجابة أخذت سنيناً طويلة إلى أن تحققت! فالإجابة لا تستلزم إيتاء طلب الدعاء في وقته- وذلك بعكس دعاء موسى عليه السلام في موضع آخر قبل أن يذهب إلى فرعون حيث قال:{ رب إشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي}- إلى آخر الآيات- فلأن الدعاء هنا متعلق بمراد الله في وقته- وهو مقابلة فرعون- فجاء إيتاء الجواب-:{ قد أوتيت سؤلك يا موسى!!}، ففرق بين الإجابة والإيتاء .