فيروس لا يغير التاريخ

أربعاء, 04/22/2020 - 12:16

منذ ظهور فيروس (كورونا)، لم تكف أقلام العرب عن الاحتفال به، باعتباره فيروسا سيغير مجرى التاريخ، ففي كل صباح نقرأ على صفحات الجرائد ومواقع التواصل، مئات المقالات والخواطر التي يكون عنوانها الرئيسي، كورونا وتأثيره في مصائر الأفراد والجماعات والدول، وكلها تتحدث عن ( عالم ما بعد كورونا )، فهذا الفيروس الصغير، صورته شطحات الغافلين على أنه جندي من جنود الله المبعوثين لتغيير مصير العالم وإيقاظ الضمائر، فهو من سيقلب الكفر إلى إيمان والكراهية إلى حب والتعصب إلى تضامن والصراع إلى تعاون، فهو من سيغير موازين القوى ويعصف بعصر الهيمنة وقد يرفع من شأن الشرق وينحدر بالغرب وسيطلق حضارة ويضع نهاية لأخرى، فهو سيضع الحد للهيمنة وقد يمرغ الوجه الأمريكي في التراب ومن المرجح تفكيكه للاتحاد الأوربي الهش ويصنع النظام العالمي الجديد القائم على قيم وفضائل المساواة والعدالة والاحترام المتبادل بين الشعوب ونبذ الحروب واستخدام القوة وبناء نظام دولي تعاوني، فقد يوقظ الفيروس ضمير العالم الذي لم تنجح في إيقاظه الأديان و الرسالات ولا جهود الأنبياء العظام والفلاسفة والمفكرين والشعراء الكبار. 

 إن هذا الفيروس، الذي لا يعرف الناس من أين أطل، سيغير المصائر، وسواء تخلق في جسم خفاش هزيل وضع على مائدة صيني بائس أو صنعته يد كيميائي نابغة يضع في عنقه إحدى جوائز نوبل، فهو جندي من جنود الله وعلى يديه فان مصيرنا سيتغير !!

 لقد قرأت خلال أسابيع، مئات العناوين لمقالات في صحف شهيرة ومواقع مهمة وعلى أيدي كتاب يزعمون التميز ويدفع لهم بسخاء، حتى أن أعظم عقول الاستراتيجية في القرن العشرين (هنري كيسنجر) انضم لجوقة العازفين على وتر (كورونا) .. لقد قرأت العناوين وليس المضامين كلها، بسبب قناعة راسخة لدي بخطأ القفز للاستنتاجات المتسرعة المنساقة وراء (الظواهر) دون تمحيص ووقع نظري على عدد لا يحصى من عناوين تتحدث عن ( الدين، الحرب والسلام، الاقتصاد، علاقات الدول، الحب، الصداقة، الصلوات والعبادة، الزواج والطلاق، السفر والسياحة، الأزياء والعطور، وحتى الموت والدفن …إلخ في زمن كورونا ). 

وقد ذهبت معظم المقالات إلى أن كل شئ سوف يتغير وبشرت هذه المقالات أولئك الذين سوف يسعفهم الحظ بالنجاة من الفيروس بالحياة في عالم آخر غير الذي ألفوه قبل ظهور الفيروس العظيم !! وكأن هذا الفيروس حدث فاصل في التاريخ وقانون من قوانينه التي ستغير مجراه نحو منعطف آخر. 

إنني لا أستهين بهذا الفيروس العجيب وقد استسلمت، كغيري، لضوابطه، ولا أعرف عنه غير أنه مادة مهينة تتخفى في دهن حقير، ومع ذلك هناك من ذهب نحو الظن بأنه سيلعب دور البطولة في تغيير مصير العالم. 
   
إن هذا البطل المزعوم، لن يغير أي شئ له معنى لأنه، ببساطة، ( ظاهرة ) وليس ( قانونا) …
  
في التاريخ هناك "ظواهر" وهناك "قوانين " والظاهرة عبارة عن حالة، تظهر وتختفي، وهي في العادة تظهر سريعا وبصورة فجائية، تحدث الصدمة وتربك الحسابات وتخلق التوتر، أما القانون التاريخي، فهو " العلة "المحركة للتاريخ، وكلما ظهرت العلة أنتجت المعلول ضرورة، وذلك هو ما يدفع بالمؤرخين إلى القول بأن "التاريخ يعيد نفسه " فالتشابه في الأحداث الذي يصل أحيانًا إلى حد التطابق بين أحداث التاريخ، ناجم عن اتحاد العلة في هذه الأحداث، أما الظاهرة فهى حالة عابرة لا ترتفع إلى مستوى العلة المحركة للتاريخ؛ رغم أنها تصنع الاضطراب والأزمات، فالفارق ان الظاهرة تحدث تأثيرها في المتغيرات الظرفية أما القانون فهو يمس بالثوابت التي تغير مجرى التاريخ.

وسواء تعلق الأمر بالأفراد أو الجماعات أو الدول، فان هناك متغيرات لا تحصى تنشأ عن الظواهر وتختلف نتائجها بسبب اختلاف ردود الأفعال الغريزية - في الغالب - ومع نهاية الظاهرة تعود الحياة لمجراها الطبيعي دون تغيير يذكر، أما قانون التاريخ فيغير الأوضاع بشكل كلي. 

ان العلاقات الدولية، مثلها مثل كل المسائل الحياتية، تخضع لتأثيرات الظواهر والقوانين، الظاهرة فيها تتطلب التكيف المرحلي لدفع الضرر أو جني المكاسب، أما القوانين وهي ثابتة ومعروفة فلها شأن آخر ، ومن قوانين التاريخ الثابتة، قانون الصراع، قانون توازن القوى، قوانين الدين والقومية والاقتصاد كمحركات للتاريخ وقانون الفرد البطل ودوره في نهوض الأمم وقانون الحرب والسلام …إلى آخره، فهذه وغيرها من قوانين التاريخ تغير مجرى التاريخ، أما الظاهرة فتكتفي بتغيير السلوك والتصرفات والعادات، ومن المرجح ان فيروس كورونا سيحدث بعض التأثير في سلوك الناس وعاداتهم، لكنه لن يمس ثوابت العالم ونواميس الحياة، لأنه ظاهرة، لا أكثر.
 
نعم، من المؤكد ان توازن القوى العالمي سيتغير في يوم ما، فهذا هو منطق قانون التوازن على مر التاريخ، وما من شك في ان الصين ستغدو قوة عالمية كبرى وشريكا أساسيا في إدارة العلاقات الدولية، لكن ذلك سيحدث بفعل قانون الصراع ومآلاته وليس بفعل فيروس كورونا العجيب، فالصين دولة كبرى مرموقة وعملت منذ عقود طويلة على تأكيد مكانتها الدولية والقفز إلى عربة القيادة العالمية بجهد قيادتها ودأب علمائها ونشاط شعبها، فقد أصبحت قوة اقتصادية عالمية جبارة وهي في غضون أعوام قليلة سوف تكون القوة الاقتصادية الأولى كما ستكون قوة عسكرية جبارة بإعداد الجيوش العصرية وصناعة الأسلحة وتطوير الصواريخ وارتياد الفضاء والسيطرة على الذرة، وفي رمشة عين سوف تستكمل شروط القوة العظمى، ومن المؤكد انها لم تكن تنتظر فيروس يحدد مكانتها ويرسم قدرها ومصيرها.

 ونعم، فان الاتحاد الأوربي سيتفكك في يوم ما، لكن ذلك سيتم استجابة لقانون تاريخي آخر، هو نزعة الأمم للاستقلال، فقد كانت وحدة أوروبا ضد مجرى التاريخ، فرضتها ( ظاهرة التكتل ) وليس علة التاريخ وقوانينه، وان هذا التفكك المحتوم ليس استجابة لفيروس أثار غضب الإيطاليين الذين لم ينفعهم الاندماج في الساعات العصيبة أو تبرم الفرنسيين من قرصنة كماماتهم أو حزن الأسبان على ضحاياهم، فقد يسرع الفيروس من يقظة الشعوب أو يعجل بالتفكك المحتوم، لكنه لا يستطيع، مهما علا شأنه، تقرير مصير أوروبا، فالاتحاد الأوربي سيسير نحو الاضمحلال بفعل يقظة القوميات لا انتشار الفيروسات. 

ونعم، فان الفيروس سيترك بعض آثاره على العلاقات الدولية بسبب الدول الهشة التي سوف يزداد ضعفها وانكشافها ومضاعفة بؤسها، فهي من سيجفل بغرائز الخوف في أي اتجاه وتزداد ارتماء في أحضان العمالقة الذين يرسمون خرائط النفوذ، ومن هذه الدول بلداننا البائسة، وما لم يظهر فيها قيادات التاريخ، فإنها ستقع ضحية لفيروسات اعظم بكثير من فيروس كورونا.

بقلم / أ . د . ابراهيم ابوخزام.
18 ابريل 2020 م