نحن والمسار الحانوتيّ "الحلقة الثانية"

أحد, 04/19/2020 - 22:50
الراحل الدكتور الشيخ ولد حرمه تغمده الله بواسع رحمته

فى ظل الجدل الدائر حاليا بين ركائز النظام السابق بسبب إستماع لجنة التحقيق البرلمانية لبعض الوزراء والمدراء و الوزراء الأول فيما يتعلق بتسيير الملفات موضع تحقيق اللجنة البرلمانية وتبادل الاتهامات بينهم وإلقاء بعضهم المسؤولية كاملة على الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز ارتاينا فى موقع الغد أن نعيد نشر سلسلة مقالات " نحن والمسار الحانوتى" للراحل الدكتور الشيخ ولد حرمة الذى تقلد منصب وزير الصحة فى أولى حكومات ما بعد انتخابات 2009  .

 

نص المقال الحلقة الثانية :

 

قال الله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه}. (التوبة).

 

مما يروى بكثرة من قصص الرجل الصالح حمدن رحمه الله.. أنه قام ذات مرة ليحلب الغنم، فحمل “التاديت” وأخذ برجل كبش، فقيل له : يا حمدن.. هذا كبش لا يمكن أن تحلبه.. فرد بلغته ذات الحمولة المعروفة “فقط.. لتدرك النعاج أنني قادم لحلبها”.

 

قبل أن أبدأ هذه الحلقة، أطمئن من يهمه الأمر أنني سأرد، ولو ردا عابرا، على التساؤلات العامة الجوهرية التي طرحت في سياق الحلقة الأولى من هذه السلسلة..

لقد رأيت ما كتب من التساؤلات الكثيرة عن سر هذا المنعطف الذي اخترته، وعن توقيته.. ولماذا أعاكس التيار وقد تحول إلى إعصار، و في ظل الزعم بأن المعارضة تلاشت وأنها لا توجد اليوم في أحسن مواقعها عبر تاريخها؟ إذا على من أعول في هذا الدرب الجديد، وكيف أتجاوز ما أسماه البعض صورتي السابقة في النظام.. باعتباري حرقت جميع مراكب العودة؟

أولا: لا أظن مقامي بـ”حانوت أدويره” قد خلق لي حالة تألق، وإن كنت أصلا لست من هواة التألق، ولم أضعه في أولوياتي ضمن ما أتصوره خدمة عمومية تعبدية، خالصة لله تعالى و خالية من الحظوظ الذاتية، أقدمها لوطني وشعبي. مع أنني في كل محطة من حياتي السياسية كنت أسمع من يقول لي إنني أحرقت مراكب العودة واحترقت! باختصار شديد لا أظن أن في السياسة مراكب تحرق.. وعودة مستحيلة.. فمراكب الحق لا سبيل لحرقها، و العودة  على متنها من ظلمات الوهم و الغي و الباطل  إلى مواطن الحق الساطعة  فضيلةٌ ما يُلَقاها إلا من نور الله بصيرته، و اجتباءٌ    {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم} (المائدة). و لنا في أبينا إبراهيم عليه السلام أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} (التوبة).  

 ثم إن الشجاع الحقيقي أو السياسي الفعلي هو من لا يرهن نفسه لأشياء صغيرة، وبالتالي يمكنه اتخاذ قراره في كل وقت لاستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. و إذا كان الخطأ فطرة  بشرية فإن خير الخطائين التوابون. وفي هذا المقام  فإني أعلن توبتي في ما فرطت في جنب الله قولا  أو عملا، إفراطا أو تفريطا، قصورا أو تقصيرا. راجيا أن أكون من “الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم. ومن يغفر الذنوب إلا الله و لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم و جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و نعم أجر العملين” (آل عمران) .

إعلان التوبة هذا موجه بعد الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور، إلى إخوتي في المعارضة  لما قد صدر مني حينا من الدهر من ما لا يليق بمقامهم الشريف، دفاعا عن قناعة تبين لي لاحقا زيفها إذ كانت مؤسسة على مغالطات و دعاوى تضليلية.

ثانيا:أنا لا أعتمد على ما تعرضه ساعات الآخرين، ما دمت لم أضع في ساعتي سوى بوصلة ضميري.

وإذا كنت احترقت، كما قال أو تصور البعض، فإنهم قد يكتشفون لاحقا أنه احتراق من النوع المفيد.. ليس احتراق تواطؤ و لا خيانة و لا تبعية عمياء. فالمحرك الذي يشتعل هو الذي يتحرك.. والمحرك الذي لا يشتعل لا يبشر عادة بخير. هذا شيء يعرفه الميكانيكيون.

وللمحايدين و أصحاب القلوب الصافية، و قليل ما هم.. أربأ بهم أن يتصوروا أنني اتخذت هذا الموقف كردة فعل على فقدان وظيفة أو امتيازأنا بفضل الله في غنى عنه. ولم أغذي يوما جسدي بحرام و لا بالمال العام. “لقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون”؟.. و ما أسهل الحصول على ذلك المبتغى لو كان هو فعلا ما يحرك قلمي، أو يغير موقفي، وأنا أتلقى عروضا مفتوحة بوظائف مهمة في الخارج.

لقد دخلت في حلف سياسي على أساس برنامج إصلاحي استهواني و اقتنعت به لمثاليته، (و من خدعنا في الله انخدعنا له). دخلته كشريك فاعل لا أجير و لا إمعة مفعول به.. دخلته عاملا وفيا و نزيها، وناصحا أمينا و موجها بصيرا في كل أمور الدولة.. وكان ردي على الشقيقة الجزائر (وأنا وقتها عضو في الحكومة)، رغم ما أكنه لهذه الدولة العريقة من فائق الاحترام و التقدير، دليل على أنني لا أعبأ بالتبعات الشخصية لمواقفي المؤسسة على قناعتي، خاصة إذا تعلق الأمر بالمصلحة العليا للوطن أو المساس بسيادته و هيبته. و سأعود لهذا الموضوع بالتفصيل إن شاء الله في الوقت المناسب.

أمَا وقد أكدت لي التجربة أن المطلوب لا يتعدى حصر مصالح الأمة في جيب شخصي، فعودوا إلى ما فعل السابقون في الإسلام بأصنامهم بعد أن نحتوها وكانوا يمسحونها ويزينونها كل يوم.

أعود للأمور الجوهرية والتي يمكنها التنوير حول السبل التي يجب أن نسلكها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من “حانوت أدويره” وحتى لا نكرر نفس موقف التعاطف مع “الوكاف” ونشارك في جريمته بإعلان تضامننا اللامشروط معه.

نعم لقد خرجت أبتغي سبيل الهداية الوطنية بعد أن اكتشفت أنني كنت في جوف هبل.. وأنه يستحيل تحويل هيكله إلى مسجد.

وأنا الآن خارج هيكل الصنم، والذي لا يملك من الصنم عفته، على حد تعبير المتنبي، فإنني لست مستعدا لتضليل الرأي العام الموريتاني بطرح أنماط شعبوية افتراضية للتغيير الذي أصبح أمرا ضروريا بل حتميا و مصيريا، و قد هوى بنا سوء التسيير الأحادي المزاجي و التدبير الارتجالي و الذوق الرديء  إلى الدرك الأسفل من الانحطاط  الذي ليس بعده إلا التلاشي و التفكك. لا قدر الله. علينا كنخبة سياسية أن نتجاوز وهمية ما يسوق كحلول مثالية، إلى الواقع المرّ الماثل للعيان، والذي يؤكد استحالة التناوب السلمي على السلطة، بعد أن تحولت مؤسسات الجمهورية إلى مغلفات بضائع محشوة بالديناميت في الوطن / الحانوت.

إنني هنا أتساءل عن أي ضمانات يمكن أن تتوفر في موريتانيا للتبادل السلمي على السلطة عن طريق الانتخابات، أي انتخابات، يديرها الطرف المنافس. الاستلام لخدر مظهر من هذا النوع  يشبه الاقتناع بمشاركة أسماك القرش الأبيض في حفل للسلام. لأنه من المسلمات البسيطة أن النظام حال كونه خصما و منافسا لا يمكنه أن يكون حكما عدلا على الإطلاق. هذه المغالطة هي التي أفشلت و أفسدت مشروع الديمقراطية في بلدنا. ويريد أولئك الذين يستفيدون من هذا الوضع أن تستمر الحالة على ما هي عليه موهمين أنفسهم برؤية بعض الورود، مع تمام إدراكهم أنها  ورود ذابلة أنبتت بين الأشواك الحادة و تتغذى من مستنقع من سموم لا بارد و لا كريم.

أنا، في هذه الحالة، لست مؤيدا لثورة شعبية، ولا لفكرتها، وذلك لثلاثة أسباب:

الأول أن النظام الحانوتي زرع ألغامه بين نسيجنا العرقي والمجتمعي، و حتى الجهوي ليستغلها ساعة الاضطرار وفق القاعدة الشمشونية “علي وعلى أعدائي”.

والثاني: أنني لست مقتنعا، إطلاقا، أنه بات لدينا وجود لحالة “وعي عمومي”، من النوع الذي يفرض التغيير الديمقراطي السلمي، رغم وجود نخب متميزة وآلاف الشباب المتعلم الواعي المستعد للتضحية، والمؤمن بقيم الحرية والتنمية، الشباب الحي الذي يحترق بهموم وطنه وأمته وبواقعها البائس في هذا البرزخ المعيشي، الذي تنهب ثرواته من ذهب وحديد وسمك ونفط وغيره، وتروح أدراج جشع و أهواء النفوس الصغيرة السفيهة.

والثالث: أن الثورات بشكلها العامي الراهن أصبحت مطية الآخر (الداخلي              و الخارجي) للقضاء على الدولة المركزية، ونتائج الربيع العربي الكارثية كفيلة بأخذ الدرس.

هكذا لا يكون أمامنا فرصة للربح من أي مغامرة تغيير غير محسوبة في بلد تسوده الأمية والعصبية القبلية والعرقية القاتلة.

هنا لا أرى الآن، كما لم أر من زاوية الضفة الأخرى حيث كنت، أن الدعوة للثورة، أو لانتخابات حتى لو كانت توافقية وشفافة سيكون حلا للأزمة التي تعيشها البلاد. لأن الهوة عميقة و أدوات الفوضى أكثر بكثير من أدوات الثورة  في الحالة الأولى، أما في الحالة الثانية، فلا يمكن تصور نتيجة إيجابية لشفافية تقنية للانتخابات، وليس سيناريو رئاسيات 2007 ببعيد.. في تلك الانتخابات الأقل تزويرا في تاريخ البلد، صحيح أن الرئيس وقتها لم يخلف نفسه، لكن النظام لم يفقد الحكم، و هو من دعم ترشحه و ضمن نجاحه  و هو من خلعه.

للأسف الشديد فإن ما نعيشه منذ ديمقراطية “ميتران 1990″، هو أن نخبة واحدة تتصارع بجناحين. وهذا ليس خطأ شائعا نصوبه هنا، بل هو الحقيقة المرة التي عمت بها البلوى.

لا يعني ذلك أن زعماء المعارضة التاريخيين، ومن بينهم مثقفون ووطنيون قطعا، انطلت عليهم الحيلة فوجدوا أنفسهم مرغمين على السير في الجلبة، بل لعله عائد إلى إتقان لعبة النفق البهلواني وإلى رَيْعِية التفكير السياسي الجيبي عند البعض، الذي هو تفكير آلة حاسبة في أحسن الأحوال، بدلا من تفكير النظرة الشمولية لروح الأمة وعائداتها.

أعني هنا بالمعارضة التاريخية كل فريق الإصلاح من خارج النظام ومن داخل دوائره.

في هذه المرحلة، يبدو وكأن المعارضين التاريخيين استسلموا للأمر الواقع، أو بدا لبعضهم بألعاب الحيل البصرية أنه أمر واقع، فقرر البعض منهم اختيار رمزية الموقف التاريخي بدل الاستمرار في عبثية تشريع مرحلة بعد أخرى، فيما آثر البعض الآخر الشعار التليد “خذ وطالب”.

تظهر هذه الصورة القاتمة، وكأنها قدر محتوم يطبق على أنفاس التغيير ويمنع مضغته في رحم أحلام الأمة أن تتحول إلى عظام يكسوها اللحم.

ولكن هل الصورة نفسها قاتمة، أم الأجواء من دونها هي الملوثة وغير الصافية بحيث لا تسمح لنا برؤية طريق التغيير من خلال صورة الواقع؟

إن واقع موريتانيا في 9 يوليو 1978 لا يختلف عن واقعها الآن عند البحث عن الكأس المقدسة للتغيير.فجميع دوافع التغيير التي كانت قائمة آنذاك هي نفسها قائمة الآن بشحمها ولحمها ، بل لعلها أدهى.

لنستعرض هنا كيف كان التغيير يتم في موريتانيا.. الأمر معروف، لكن المراجعة قد تفيد:

أمام حالات الانسداد و الأزمات التي مرت بها البلاد و في غياب وعي مجتمعي يفرض التغيير و التناوب السلمي على السلطة، لم تجد النخب المدنية وقتها,ـ اختصارا للطريق ـ بديلا عن التوجه إلى الجيش، من أجل تحقيق هذا الهدف. هكذا كان السياسي الموريتاني الوحيد الذي فهم لعبة  “اختصار الطريق” هذه هو أخي و صديقي محمد يحظيه ولد أبريد الليل أطال الله بقاءه.. وإن عانى هذا المفكر الكبير من “حظ النرد”.. ففي كل مرة كان ينثر فيها كنانة النرد العسكري، كانت حبة النرد الأقل أهمية هي من يصعد إلى المشهد. فالذي كان يحدث هو انقلاب داخل الانقلاب: انقلاب على السلطة القائمة  للخروج من مأزق النفق المسدود، و انقلاب على مشروع التغيير في زعم غياب نخبة سياسية ذات مصداقية و مهيأة لاستلام و ممارسة السلطة. لذا لم يستفد البلد من الانقلابات المتتالية لأنها لم تحدث التغيير المنشود و لم تكن نتيجتها يوما سوى استبدال شخص بآخر.

هكذا ومنذ العاشر يوليو 1978، وطوال تاريخ الدولة الموريتانية، لم يكن التغيير إلا عن طريق المؤسسة العسكرية و منذ ذلك التاريخ  و إلى يومنا هذا، و الجيش الموريتاني يمارس الحكم تارة بمواثيق و لجان عسكرية و تارة تحت يافطة من شعارات الديمقراطية (الدستورية، التعددية، الاقتراع…)

هذا التغيير يتم  في غالب الأحيان عن طريق دائرة الصف الأول، وهي عادة دائرة صغيرة، من المفترض أن لا يسمح بوجود أبواب و نوافذ فيها. لكن عكس ما هو شائع، ورغم الفقدان الظاهري للأبواب والنوافذ في كل مرحلة، فلا يمكن بأي حال من الأحوال غلق منافذ التغيير من داخل الجيش  و التي تمكن من ربط جسور تواصل بين أفراد من الجيش و أفراد من النخبة المدنيين القادرين على زرع  قناعة التغيير. بيد أن هذه الدائرة لا تتحرك عادة إلا حين تقتنع و تتأكد أن كيان الدولة أو أمنها و استقرارها أصبح مهددا أو أنها مستهدفة في وجودها و أن عليها التضحية بفرد لإنقاذ المجموعة.

أما دائرة الصف الثاني، فهي التي تحركت في 8 يونيو 2003، وهي دائرة تصعب السيطرة عليها، بقدر ما أن نتائج تحركها تعتمد أيضا على مستوى من يؤطرها نظريا على فكرة التغيير.

 

الواقع أن النخب السياسية وقعت على مر الزمن في خطئ تاريخي لعدم ربطها لأي صلة بالجيش و اعتباره عدوا و مجرد حارس باب معقل الحكم الفردي بدل اعتباره حارس و راعي مصالح الأمة  و الركيزة الأساسية للدولة.

لا بد من تصحيح هذه النظرة الخاطئة  و الصورة الظالمة لمؤسستنا العسكرية. فيها كما في غيرها من معظم جيوش العالم نخبة من الضباط الأشراف الأكفاء الأذكياء الغيورين على وطنهم أمنا و استقرارا و سمعة و حضارة و تاريخا، المستعدين للتضحية بأرواحهم في سبيله.

 إن الإيعاز للجيش، كما نسمع في بعض المناسبات، بمقايضة موقفه من الديمقراطية مقابل تحسين وضعيته ماديا ومعنويا أمر يدعو للضحك.. أن النخبة الديمقراطية، الواعية، المتعلمة  داخل الجيش تدرك تماما عبثية التغيير الانتخابي في ظل المنظومة الحالية و هي على مستوى فهم أن الديمقراطية هي أقوى سلاح لدى الجيش ولدى الدولة.. و أن التغيير لا يمكن أن يكون بحجم استبدال شخص بآخر، بل وفق برنامج غير تقليدي عن المصالحة والتحرر والتنمية..  هذا الوجه المشرق و المشرف لجيشنا الوطني دائما ما يتم  اختطافه بمؤامرة سياسية مدنية تقليدية. فكلما فشلت النخبة السياسية في أداء دورها ألقت باللائمة على الجيش الذي هو في نفس الحين أول ضحية للأنظمة الاستبدادية الفردية القبلية، ولمساراتها الحانوتية التقسيطية. لكن  كتب عليه أن يبقى صامتا من غير خرس.

إن موريتانيا ليست بحاجة إلى انقلاب عسكري عاشر بمفهومه المكيانيكي و الذي لن يكون سوى البدل الأعور الذي لن يأتي إلا بما هو أسوء. إذا أين المفر؟ أين السبيل إلى التغيير السلمي الذي يتوق إليه هذا الشعب المسكين؟ كيف القضاء على هذا البعبع الذي يتولد من نفسه و يقضي على كل المحاولات الجادة للإصلاح؟ إن ما أشرت إليه سابقا من عبثية التغيير الانتخابي في ظل المنظومة الحالية لا ينفي عدم القدرة على استغلال الوضع من زاوية أخرى يمكن أن نطلق عليها “الانقلاب الانتخابي” الذي هو عملية سياسية صرفة، تتطلب جاهزية و احترافية سياسية كبيرة.

 

إننا بحاجة لإعادة قراءة تاريخ الآباء المؤسسين للحضارات العظيمة، وحتى للدول التحررية في القرن العشرين القريب منا جدا.. وهو أمر مفيد لأي نخبوي سياسي يريد الخروج فعليا من لعبة النفق البهلواني. كما يجب أن نتعلم ولو القليل من فن أقصر الطرق و البدائل.. فقد أنفقت أمريكا ملايين الدولارات لحل مشكل علمي عويص واكتشاف قلم يكتب في الفضاء لتمكين رواد الفضاء الأمريكيين من كتابة أبحاثهم داخل مركباتهم، ولكن روسيا حلت المشكلة بسهولة من دون إنفاق دولار واحد لأن رواد الفضاء الروس استخدموا قلم الرصاص.

 

إن للتغيير في بلدنا أكثر من مبرر، لكن إن من دواعيه الملحة هو المنعرج الاستراتيجي الخطير الذي اتخذ فرديا، وبالوكالة عن البلاد دون أن تعلم به أخص دوائر الدولة وأكثرها اطلاعا. و تماما كعدم شعور الكائنات بحركة دوران الأرض، مرت موريتانيا خلال الفترة الوجيزة الماضية بمنعطف شديد لم يشعر به أحد رغم أنه حاد جدا، وسيضعها على سكة مستقبل ملغوم. ما في ذلك من شك.

وهنا علينا أن نجيب عن سؤالين مركزيين:

أولا، هل يمكننا التذاكي إلى حد أننا نستمر منذ أربع سنوات في خداع شركاء الدم والتمويل.. أهلينا و إخوتنا في دول الخليج… ونحن في الحقيقة لا نخدع سوى أنفسنا بالتمكين لإيران في المنطقة، موهمين الحلفاء أننا نخدمهم بعلاقتنا مع طهران، وبأننا عين لهم في الداخل هناك.. والواقع أننا سمحنا لإيران بتمرير أموالها ونشر فطر عقيدتها داخل حقلنا وحقول الجيران.. ومن يجرؤ اليوم على السؤال عن عدد الشيعة في موريتانيا وما يدور في حسينيات نواكشوط، وما يخطط له “حوثيو موريتانيا” هنا، وفي المجتمعات المجاورة التي ينخرها الجوع والفقر والأمية وهشاشة العقيدة، وهي تربة مثالية لاحتضان العقيدة الشيعية في بعدها الصَّفَوِي.

 أما السؤال الثاني: ما فائدة عودتنا للانغماس في مستنقع النزاع حول الصحراء.. وهل بإمكاننا السباحة في وحل آسن متشابك إقليميا ودوليا لم تخرج منه الجزائر بكل مكانتها المعنوية والمادية منذ أربعة عقود وحتى الآن؟

لماذا نتصور أن بإمكاننا المساهمة في استنبات ربيع صحراوي، ونستلم الأوامر التي تحدد دورنا في اللعبة القاتلة القادمة.. لعبة احتساء كؤوس السم.

ما يفوت البعض هنا أن الحرب الماضية في الصحراء إبان السبعينات كانت “حرب تغيير حدود”، أما الحرب القادمة فستكون يقينا “حرب تغيير وجود”.. في الحقيقة تكفي “شُكوة واحدة” بتعبير ولد بونا.

إن الأمم التي تكون مواقفها ومصالحها الإستراتيجية رهينة هوى متبع و مزاج شخصي ارتجالي، غالبا ما تنهار ديمومتها وتتكبد خسائر كبيرة.. وللحيلولة دون ذلك يلزم، وبسرعة، أن نتحرك، وفي كل الاتجاهات أفقيا وعموديا، من أجل إحداث التغيير لتلافي الكارثة.. التي رصدتها عين “يمامية”.

يتواصل