العنصرية الثقافية

سبت, 09/30/2017 - 23:30
سعيد يقطين

حين تتخذ بعدا عرقيا، مرض اجتماعي، وليست حركة وطنية حتى وإن ادعى أصحابها أنهم وطنيون أو ديمقراطيون. إن مثلها مثل التطرف الديني الذي يمارسه الإرهابيون. وما الخطاب الذي نشرته «شاعرة» أمازيغية مؤخرا على جدارها سوى تعبير عن ذلك المرض في أقصى درجات تحققه. لقد قالت ما إن طرحت قضية استفتاء الكورد: إن المطلوب هو قتل العرب جميعا.
 بعض الناس يحاربون ما كان يعرف بـ»القومية» العربية، باسم «قومية» أخرى، وبحقد بيِّن، دون أن يدركوا أنهم يعيدون ارتكاب الأخطاء التي وقع فيها من يعتبرون قوميين. كثيرون لا يضعون القومية في سياقها التاريخي، ولذلك تراهم يتخبطون ويخبطون، والأدهى أنهم إلى جانب ذلك، يتشدقون بأن تلك «القومية» متخلفة، وأنهم «التقدميون» ومدخلهم إلى ذلك يجدونه في حقوق الإنسان والهوية. بل إن بعض هؤلاء صارت تقشعر جلودهم عند سماع كلمة «عربي»، وصاروا يطاردونها أينما وجدت: المغرب العربي مثلا. وضدا على العروبة باتوا يربطونها بالإسلام إلى حد أن يحلم بعضهم بالوثنية أو الزرادشتية، وبالتقاليد والأعراف التي تنتمي إلى ما قبل العصر الحديث، ومع ذلك تراهم يتشدقون بالحداثة والعقلانية والعلمانية. طينة هذه الفئة من المثقفين لا يهمها الوضع الحقيقي الذي يتخبط المغاربة فيه، عربا وأمازيغ وصحراويين، وحتى من لا نسب لهم، ممن لا يعرفون آباءهم، أو تركتهم أمهاتهم في حاوية للقمامة. إنهم وهم ضد العروبة أصبح عدو شعوب المنطقة بكاملها (الصهيونية) صديقا لهم، ضدا على «العرب». ويتبجح بعضهم بزيارة إسرائيل في الوقت الذي نجد المثقفين الحقيقيين في العالم، وحتى اليهود منهم، داخل إسرائيل وخارجها، ضد الدولة العنصرية التي قامت على ادعاءات عنصرية، وإن ادعت الديمقراطية. وها هي ذي تسفر عن وجهها الحقيقي بعد أن صفا لها الجو، تطرح مشروع قانون «الدولة العبرية» التي لا تختلف في جوهرها عن ادعاءات الدواعش في إقامة الخلافة الإسلامية. لكن هؤلاء إرهابيون، وأولئك يمثلون واحة الدولة العصرية في الشرق الأوسط.
إنهم في الإرهاب سواء، وكل من يدعم هذا الاتجاه لا يمكن أن يكون إلا إرهابيا. وما تعبيرات تلك «الشاعرة» إلا خير دليل على تلك العنصرية. أين منها الفنان، والشاعر الأمازيغي الحقيقي المرحوم محمد رويشة، وسواه من الفنانين الحقيقيين الذين لا يفرقون بين العربي والأمازيغي، ويغنون بالأمازيغية كما يغنون بالعربية، مجسدين بذلك التنوع والتعدد الثقافيين في أسمى وجودهما كتعبير عن القيم الإنسانية، لا عن العنصرية الثقافية البغيضة. وهل يمكن لفنان، مهما كانت درجة التزامه، بأي قضية أن يصل به الحقد إلى حد قتل وطرد كل من يشترك معه في تاريخ طويل وملموس وواقعي؟
ما الفرق بين حنا مينة وسليم بركات؟ وبين الشاعر حسب الشيخ جعفر وبلند الحيدري؟ إن المبدع الحديث ينتمي إلى وطن الإبداع، وليس وطن الجغرافيا، أو القبيلة التي ينتمي إليها. ما الفرق بين أبي نواس وبشار وابن الرومي، من جهة، وأبي تمام والمتنبي والمعري من جهة أخرى؟ ليس العرق هو الذي يحدد إبداعية هذا أو ذاك، ولكن «الشعرية» هي التي تحدد الشاعر من غيره. وبحسب تلك الشعرية تتحدد القيمة الإبداعية للمبدع الحقيقي، لا بحسب الأقوال العنصرية.
سبق أن كتبت عن العمى الثقافي والحقد الإيديولوجي. وها نحن نصل إلى أقصى ذلك من خلال العنصرية الثقافية التي كان أصحابها يخفونها تحت شعارات مزيفة، وتكشف أنها نتاج طبيعي لذاك العمى وهذا الحقد. أن تكون مغربيا، وتتعاطف مع الأكراد لأنهم مهمشون وحقوقهم مهضومة شيء. أما أن يكون تعاطفك معهم لأنك تشترك، مع بعضهم، في كراهية العرب، وتعمل على إعطاء شرعية لإسرائيل، نكاية في الشعب الفلسطيني لأنهم عرب، فهذا شيء آخر.
يمكن للمرء أن يتعاطف مع القضايا العادلة. لكنه في الوقت نفسه، يمكن أن يتخذ موقفا منها حين تحيد عن مقاصدها النبيلة، ولا سيما حين تستغل لأهداف شخصية أو فئوية ضيقة، أو لا تخدم المصلحة الخاصة لمن تدعي خدمتهم، أو العامة في المنطقة بكاملها. لقد تعاطفنا مع سوريا زمنا طويلا حين كنا نراها في الواجهة ضد العدو الصهيوني. ولكن حين صارت الحراب توجه إلى صدر الشعب لا بد من التوقف. تعاطفنا دائما مع الأكراد المعارضين لنظام البعث حين كانوا يعانون من سياسته وتوجهه اللذين لم يكن يميز فيهما بين العربي والكردي والتركماني وغيرهم من المعارضين له. كانت سياسته، شأن كل الأنظمة القمعية تفرض إما أن تكون معها أو ضدها.
سقط نظام البعث، وكان الأمل أن يبنى عراق جديد يتسع لكل القوميات والإثنيات التي يجمع بينها تاريخ عريق لا علاقة له بالأوهام ولا بالحدود التي رسمها الاستعمار. تصورنا أن النظام القمعي سيؤدي إلى تجاوز كل الغطاءات التي كان يتدثر بها لزرع الرعب في القلوب. لكن بدا أن مستنسخي صدام باتوا بالعشرات، وكل يحلم باتخاذه أنموذجه في المنطقة. تضاعف الرعب، والاقتتال، والخطف، والتهجير، والتطهير العرقي. لم يمت صدام بل تجلى في كل أعدائه وخصومه، وكل يتخذه قدوة ليس لبناء وطن حديث ومعاصر قادر على مواجهة تحديات العصر، وطن لا ينظر فيه إلى الاسم الشخصي، ولا إلى الانتماء الطائفي أو المذهبي أو العرقي، بل إنهم عملوا جميعا على تخريب الوطن، وتشتيته وتمزيقه، وكل له نواياه الخاصة في الأخذ بالثأر والانتقام، وكل له من الأمثلة ما يكفي لممارسة الهروب إلى الماضي بدل البحث عن بناء المستقبل.
حين «توحد» العراقيون جميعا ضد الإرهاب وضد داعش، كان كل يمارس حربه، ليس من أجل القضاء على الإرهاب، ولكن من أجل الحصول على «الغنيمة» الخاصة، مستغلين ما كان يحبل به الواقع من فوضى، لتثبيت الذات وفرضها على الآخرين. هذا حشد، وتلك بيشمركه، وهؤلاء عشائر… لم يكن التنافس على طرد الظلاميين، ونشر قيم الحرية واحترام الإنسان بعد دحرهم، ولكن على احتلال الأرض التي يخرج منها الإرهابيون للتفاوض عليها بعد انتهاء الحرب أو لفرض الأمر الواقع. لقد خرجوا جميعا من معطف صدام، ومن طاقية الصهاينة الذين يبنون المستوطنات ويتحدثون عن السلام.
ما إن بات شبح الدواعش مهددا بالزوال حتى رفع الاستفتاء بدعوى أن الدولة طائفية ومذهبية. لو قالها ليبرالي أو علماني لأغرانا بالإنصات، ولكن حين يدعيها من لا علاقة له بالديمقراطية منذ أن تولى شؤون الإقليم لا يمكننا إلا أن نتساءل ما الفرق بين المذهبي والطائفي والعرقي. ألم يكن الأحرى إنهاء الحرب ضد الإرهاب، والتفكير في مستقبل يضمن أولا حقوق الشعب العراقي قاطبة؟ وإذا ما تم التفكير في الاستقلال يكون ذلك في شروط مختلفة وظروف ملائمة؟ إن النوايا غير الوطنية لا يمكنها إلا أن تكشف عن الوجه الحقيقي لكل الحرب والدمار اللذين عرفهما العراق بعد سقوط بغداد. ولا أحد يستفيد من هذا غير إسرائيل التي شجعت الاستفتاء.
إسرائيل لا تهمها دولة للكورد. بل استمرار الفتنة في المنطقة. من الحرب «الدينية»، إلى «العرقية». قد تتوحد الشيعة والسنة ضد الكورد، ولتكن الحرب، بعد ذلك، بين الكورد أنفسهم. لتعش إسرائيل وحدها، والموت لكل من في المنطقة مهما ادعى صفاء عرقه، أو نجاة فرقته، أو تعاطفه معها.