"أحمد بتار" الفراغ الأكيد والعمر الجديد

سبت, 06/10/2017 - 22:24
باباه ولد التراد

رحل إلى جنة الخلد بإذن الله علمنا وعالمنا أحمد بن باباه المعروف "بأحمد ولد بتار"  ثمرة أعلام العلماء والأدباء، شيخنا وابن عمنا الكبير العالم  الجليل والشاعر الشهيرصاحب المحامد والمأثر الجمة وحامي حمى الديار والأب الحنون :

أخ وأب لي ثم أمّ شفيقة ...   تفرّق في الأحباب ما هو جامعه

سلوت به عن كلّ من كان قبله ... وأذهلني عن كائن هو تابعه

ينحدر شيخنا الجليل من بيت عريق في الشعر، فجده القطب الكبير الشاعرأحمدو ولد باباه، وعمه العلامة سيدي محمد ولد باباه "ول امن" إمام النحاة واللغويين والنقاد من الشعراء المجيدين ، وقد وظفت هذه السلسلة النجيبة والأسرة الكريمة شعرها وجهودها في خدمة فصيلتها وقبيلتها ونهضت بهذه المهمة خير قيام ، فقامت بتسجيل أيام ووقائع القبيلة ، ونافحت عنها ومدحتها وخلدت أعيانها بالرثاء والدعاء ، ومع ذلك يصدق على أسرة فقيدنا أحمد بن باباه ما قاله عمه سيدي محمد بن باباه عن اليوسفيين :

بل إن كل بني المفضال يوسفنا         كحلقة أفرغت فما لها طرف

وبما أن "ذكر الفتى عمره الثاني" ، وأن " الرجل النبيل هو من يعطي الدنيا أكثر مما يأخذ منها " فإن فقيدنا

كان زاهدا، فاضلا، منقطعا إلى الله سبحانه وتعالى، عارفا به ، شهد بفضله الجميع، وترجم شعره أكابر العلماء، وقد كان غنيّا ببنات صدره عن الاستلحاق، ومكفيّا بمصون خاطره عن الاستطراق .

كعبة الزوار، وحرم الأنوار ، ومعدن الأسرار ، قمة من قمم التصوف ، له همة عالية، ارتفع صيته عند الخاصةوالكافة ، ومع ذلك لا نبالغ إذا قلنا إن شيخنا أحمد بن باباه الحافظ، الناقد ، اللغوي، النحوي، الأديب، الشاعر، المتفنن، العلامة الحافل، الحبر، البحر، الحجة، كان شاعرًا بارعًا، ملتزما كثير الشعر جيده

غـــوث الأنـــام إذا الأنـــام أصـابـهـم == عــــض الــزمــان بـظـفــره وبـنـابــه
مـن عـم وابــل جــوده كــل الــورى ==     مـمــن نـــآه ومــــن أقــــام بـبـابــه
وإلى هذا تجد أن كل وصف حميد ينطبق عليه حتى ولومدح إعرابي صديقه وقال: "مجالسته غنيمة وصحبته سليمة ومؤاخاته كريمة، هو كالمسك إن بعته نفق وإن تركته عبق" .

قــــاد الــنــدى بـعـنـانـه فـذهــابــه == بــذهـــابـــه وإيــــابــــه بـــإيـــابـــه .

وكان فقيدنا الجليل أحمد بن باباه شيخاً مهيباً حلو المجالسة ، كثير الإفادة قوي المشاركة ، مليح التواضع، من أوعية العلم وكنوز العمل ، تميز شعر بسهولة المأخذ والبعد من التكلف وطلاوة اللفظ وحلاوة الأجراس ، والاعتماد على الصور المادية، والأناة ، وجزالة الألفاظ ، وجودة المعنى وقوة المبنى والعناية الفنية الظاهرة في غير ضعف ولا وهن،فكان شعره يجري على لسانه سهلا منقادا يمتاح المعاني المختلفة من الثقافة الأصيلة والمحلية ، فسهل شعره على حامليه ، وتناول شعره كل الأغراض المعروفة باعتبار أن اللغة، في أي مجتمع، هي الواجهة الحاملة والحاضنة للملامح الأساسية لأنساق وخصائص الهوية المتكاملة التي تميز أمة أوطن أو مجتمع معين عن غيره ، وتشكل جوهر وجوده وشخصيته المتميزة وإحساسه المتماسك بالذات ووحدة مشاعره الداخلية التي تتمثل في الشعور بالاستمرارية والتمايز والوحدة والديمومة ، وعلى هذا النسق فإن شاعرنا قد جمع الجزالة، والسهولة، والرّصانة، مع السلاسة ، واشتمل على الرّونق والطّلاوة، وسلم من حيف  التأليف،  لتأتي القافية متمكنة في مكانها، مستقرة في قرارها، مطمئنة في موضعها، غير نافرة ولا قلقة، متعلقاً معناها بمعنى البيت كله تعلقاً تاماً، على هذا النسق من قصيدته التي مطلعها :

على مربع عاف بصخر على صخري    سكبت دموعا ما جرين على صخري

كأن دموع العين حال انهمالها                 ترقرق انهار تفجرن من صخري

وبالجملة فكان جمال العصر، ومفخر الأفق، وينبوع المعرفة، ومعدن الإفادة، وكان لا يدرك شأوه، ولا يبلغ مداه في العناية بقرض الشعر وتقييد الآثار وخدمة العلم، مع حسن التفنن فيه، والتصرف الكامل في فهم معانيه، إلى اضطلاعه بالآداب، ومهارته في الفقه.

وقد أجاد شيخنا أحمد بن باباه "التار" الذي يعد بحق من أبرز شعراء هذا القطر وأجودهم قريحة وأعظمهم شأنا في رثاء عمه سيدي محمد بن باباه بقصيدة رائعة ، يخيل لنا أنها رثاء عفوي سابق لأوانه ساقه فقيدنا لنفسه ، كما تخير مكان دفنه ، واستشعر دنو أجله وأنه لن يفر من الموت إلى شواطئ المحيطات في هذا المصيف بالذات ، وقد جاء في هذه المرثية المزدوجة ما يلي :

خير امرئ عظمت في الله هيبته              للأمر ممــــــــتثل للنهي مجـــتنب

وخير من حمدت في العلم سيرته    وخير من طبعت في صدره الكتب

فمالك وابنه والستة الشــــــــعرا     ما إن لها بعده اســــم ولا لــــــقب

وفي قضايا الجنيد فاق معتـــقدا      وفي الرسائل أيضا أمره عجــــب

ونافع في الأدا والنــــفع ديدنه       أخ حـــــــــنون على إخوانه  وأب .

ترك وراءه فراغا كبيرا ، لكن تاريخه المجيد بقى خالدا ، ومع ذلك نام وهو قرير العين لأنه أدى مهمته ، وقدم للمجتمع أفراد أسرة جاهزين لخلافته ابتداء من هذه اللحظة التي هيأهم لها .

فجزاه الله عنا خيرا وأسكنه فسيح جناته مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم .