"الهوية" بين التشنيع و التمييع

أربعاء, 05/17/2017 - 09:17
الولى ولد سيدي هيبه

حضرت في نواكشوط حلقة نقاشية متميزة بعنوان "السلم في المجتمعات ذات التنوع الثقافي (موريتانيا نموذجا)" أنعشها على التوالي الأستاذ الدكتور سيد محمد ولد الجيد و المفكر الإسلامي بوبكر ولد أحمد. و لما كانت الندوة حافلة بالمعلومات القيمة حول موضوع بالغ الأهمية، و زاخرة بالإيضاحات المستنيرة حول دقائق الموضوع الشائك، فقد أعقبت العرضين مداخلات الحضور و قد اخذ جُل حيزها الزمني إشكال "الهوية" الذي بدا على محوريته غير واضح المعالم بنفس الدرجة في الأذهان، و موضع تضارب في أبعاده اللغوية و المفاهيمية و السياسية و خلفيات التجسيد على أرض الواقع في حدود الدولة و سلطتها و الشعب و تفاعله، بين:

 

-         من يرون أنه محسوم في موريتانيا على العكس من عديد الملفات الكبرى الشائكة و العالقة التي تفتقر إلى المعالجة الجادة و تصور الحلول المناسبة كالرق و مخلفاته العميقة، و تأثير القبلية و أرستقراطيتها الأسرية و الشرائح الدونية المتمخضة عنها في الأساس و غياب العدالة في توزيع الدخل العام و سوء توزيع أقطاب و إمكانات التنمية الخائرة.

-         و من يؤكدون بعد الحسم مع استمرار معضل حقوق الأقليات الزنجية الإفريقية و تداعياته الخطيرة و الصامتة على خلفية الافتقار إلى المصارحة حوله من ناحية، و رفض الكشف عن نقاط الخلاف حوله و مناطق الغموض فيه من جهة، و ما يجري داخل هذه المكونات من ظلم الطبقية السائدة فيها متمثلة في الإقصاء و النظرة  الدونية الشديدة حيال الطبقات في أسفل السلم التفاضلي.

 

و على الرغم من أن الجميع متفق على أن شعوبَ العالم منذُ نشأة البشريّة حتّى يوم الله هذا دأبت على المُحافظةِ على تميُّزها وتفرُّدها اجتماعيّاً، وقوميّاً، وثقافيّاً - كما أوضح المحاضر ولد الجيد - و اهتمتْ بذلك حتى تكون لها هويّةٌ تُساعدُ في الإعلاءِ من شأن لأفراد في مُجتمعاتها، ما جعل وجود هذه الهويّة يساهم في زيادةِ الوعي بالذّات الثقافيّة والاجتماعيّة؛ وعيٌ ساهمَ بدوره في تميُّزِ الشعوب بعضهم عن البعض حيث أن الهويّة هي جزءٌ لا يتجزّأ من نشأة الأفراد منذُ ولادتهم حتّى رحيلهم عن الحياة.

 

كما أتفق الجميع على أن ذلك هو ما ساهم في وجود فكرة الهويّة في التّعبيرِ عن مجموعةٍ من السّمات الخاصّة بشخصيّات الأفراد؛ لأنّ الهويّة تُضيفُ للفرد الخصوصيّة والذاتيّة، كما إنّها تعتبرُ الصّورة التي تعكسُ ثقافته، ولغته، وعقيدته، وحضارته، وتاريخه، وأيضاً تُساهمُ في بناءِ جسورٍ من التّواصل بين كافة الأفراد سواءً داخل مجتمعاتهم، أو مع المُختلفة عنهم اختلافاً جُزئيّاً مُعتمداً على اختلافِ اللغة، أو الثّقافة، أو الفكر، أو اختلافاً كُليّاً في كافّةِ المجالات دون استثناء.

 

و أما الفقيه ولد أحمد فقد ركز في مداخلته على الناحية الشرعية  حيث بين أن كل مكونات المجتمع الموريتاني تشترك في الخصائص الاجتماعية كالزواج و العقيقة و التبادل و تأدية الشعائر و في الخطوط العريضة لمسطرة الأخلاق  الفاضلة العامة التي صاغها في المجمل المعتقدُ الإسلامي المشترك حتى لم يبق إلا اختلاف اللغات. و أما الذين يعتبرون أنه لكل مكونة خصوصياتها و هي جزء من كينونتها التي تحرص على التميز بها و الظهور، و أن عكس ذلك إنما تعلله الاستعلائية و النظرة الدونية، و هو واقع الأمر الذي وضع الفروق الكبيرة في درجة المكانة و الريادة و الاستئثار، و جعل مكونة تهيمن و تفرض خصوصياتها على  سواها؛ و هو واقع الأمر أيضا، الذي كرس الشرائحية و رتبها ترتيبا جائرا خلق حالات من الامتعاض و التذمر و الشعور بالظلم و الغبن و التهميش و الإقصاء الشديد؛ حقيقة مرة تكذب واقع وحدة الهوية و تماسك جسم البلد الذي يحاول البعض أن يفرض أمر صحته و تزكيته لرسوخ الهوية الوحدة.    

 

كما يذهب المشككون في استقامة حالة البلد و قيام العدل فيه و وجود رغبة صادقة في حسم مسألة الهوية النائمة المستيقظة حتى تطي صفحة تداول النقاش العقيم حولها، و العمل بمقتضى أنها كما تُعرفُ في اللّغة كونها مُصطلحا مُشتقا من الضّمير هو؛ ومعناها صفات الإنسان وحقيقته، و أنها الإشارةِ أيضاً إلى المَعالم والخصائص التي تتميّزُ بها الشخصيّة الفرديّة، و اصطلاحاً مجموعةٌ من المُميّزات التي يمتلّكها الأفراد تُساهمُ في جعلهم يُحقّقون صفة التفرّد عن غيرهم؛ مُميّزات مُشتركة بين جماعةٍ من النّاس سواءً ضمن المجتمع، أو الدّولة، و أنّها كلُ شيءٍ مُشترك بين أفراد مَجموعةٍ مُحدّدة، أو شريحة اجتماعيّة تُساهمُ في بناءِ مُحيطٍ عامٍ للدولة يتمُّ التّعاملُ مع أفرادها وفقاً للهويّة الخاصّة بهم.

 

و إنها الحقيقة التي تبدو غائبة عن الذهنية العامة الاجتماعية و السياسية الموريتانية و لكنها الحاضرة بفعل التحرك المتصاعد في وجهها و الذي يطالب بنقاش مسألة "إشكال" الهوية بصدق و تجرد و نزاهة فكرية بعيدا عن الديماغوجية المبتذلة، نقاشا يحسم الدينُ ميبقا حسن مآله بقول الحق الله عز و جل: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".. فهل يحسم المثقفون و السياسيون هذه المسألة بما تتمخض عنه الهوية العليا الموحدة لمكوناته على أرض البلد و ضمن حدوده المعلومة؟