يا بعيد الدار..

جمعة, 11/04/2016 - 14:15
محمدُّ سالم ابن جدُّ Abouz130@gmail.com

يا هدى الحيران في ليل الظلام

أين أنت الآن؟
بل أين أنا!
تاه فكري بين أوهامي وأطياف المنى
لست أدري – يا حبيبي- من أنا!
أين أنا؟!!
محمدٍ ابن بدُّ، بدن ابن انبَيْ، وقد أسمع بعض مقاربيه في السن يصغر اللقب (بَدِّن) أديب كبير وظريف فريد ربطتني به صداقة وثيقة بدأت قبل أكثر من 30 سنة، لم يكدرها الفرق الزمني بيني وبينه، وإن حد من مجالات التعاطي، دون تعال منه ولا تكبر، وإنما استشعارا مني أنه الأكبر، واعتقادا أن التوقير لا يؤثر في الصداقة.
رسمنا بخطانا ومجالسنا لوحة وردية على رقعة تمتد من العاصمة إلى بو تيدومة الگصعه وتيگماطين، ويتمثل محورها في الجديدة وما جاورها من تگند النخل إلى السلام، ثم من الجديدة إلى المُراد وباكْلَيْلْ والجامع والمقام.. وقد نتجاور في الخريف.
أيام أملي للنسيم صبابتي ** وأناشد النبع الهوى أن يخبرا.
تذاكرنا الحكايات والطُّرف، وتناشدنا الأدب، وتساجلنا فيه، فاستمرأنا السمر، واستطبنا اللقاء مهما طال، واستطلنا الفُرقة مهما قصرت، ولم يخل تاريخنا من مشاكسات ودية.
ظفرت به مرة (لعلها سنة 1990) أواخر شعبان، فشددت يدي به مطمئنا إلى أنني أعددت العدة لليالي رمضان، لكنه لم يلبث أن تملص مني واتخذ سبيله في البر سربا، دون أن أنال منه سوى وعد بالعودة قريبا، ومكثت ما شاء ربي، ثم اقتضى العمل عودتي إلى منفاي الداخلي، وبعد شهور عاودت الأهل، وهناك لقيته فبادرته بالقول:
من عجلتْ بدن منطعن ** زايز معتادِي فانِي
لعاد افسخني ما ازين ** رمظانُ من رمظانِي
فرد بالقول:
اعجلت – أطبعي- غير بعد ** من مشْيِ ماني هاني
والفَسْخْ اَخبارْ! أُلاَ انگد ** انگول: أشبه رمظاني
فأجبته:
حانيتك شَهْرْ اُش امعاهْ ** من راص الشهر الثاني
واعرفت انْ هذ ما ادعاه ** منك ماهُ نسياني.
وواصلنا على هذا النحو. ولنا مواقف وذكريات يهون العمر إزاءها، ومساجلات ودية.
مع بدء التحزب والتحول المدني كان بدن في صف الحكم وكنت على النقيض دون أن يفسد ذلك للود قضية، لكن الحرية الاجتماعية التي نعم بها طويلا أبعدته عني فصرت ألقاه لماما بين الفينة والأخرى وغالبا ما كان الزائر، فكنت أمازحه بأن هذا طبيعي؛ فالسجين هو من يجب أن يزار! ثم رست سفينته على بر فقل اللقاء عما كان، وزادوا فأودعوه دار الكتب بالرياض، ثم قصر المرض قيدي بتيارت، كل ذلك دون انقطاع الحبل نظرا لحرصنا على وصله ولو بالهاتف
وخلال مؤتمر اتحاد الكتاب والأدباء - أواخر رمضان الماضي- شعرت بيد على كتفي كان لها في قلبي وقع مغاير لعشرات الأيدي التي تعاقبت عليَّ يومها فنظرتُ فإذا هو بشحمه ولحمه! هببت وعانقته طويلا وأنا أردد: الحمد لله الذي مكنني منك، وفي عيون بعض المحيطين استغراب كلام ثأري مع عناق حميم.
بعد عامين من الرباط في المدينة إذعانا للمرض قضيت إجازتي السنوية (سبتمبر) خارج العاصمة، وعدت منذ شهر فاتصلت مرارا بصديقي العزيز دون جواب من غير شركة الاتصال، لم يَرِبْنِي شيء في الأمر ولا ظننت سوءا، وإنما واصلت السؤال عنه أو عن رقمه الجديد. ولأنه من غير الفسابكة أردت نشر تدوينة عن "غدرته" أخبره أني على العهد والود؛ راجيا "من الإخوان أن يبلغوه إذا هو لم يعلم" وقبل نشرها طرحت سؤالي عنه كالعادة فجاءني الجواب بالترحم عليه! لقد توفي – رحمه الله- في ذي الحجة الماضي وأنا خارج التغطية.
 استحضرت العناق الأخير بيننا، وردد جرير في خاطري:
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ** يوم الفراق فعلت ما لم أفعل!
صديق عزيز يرحل، دون أن أعلم! لا حول ولا قوة إلا بالله. تحياتي إلى آله الأكرمين؛ معزيا عن عدم تعزيتي إياهم في مصابنا الجلل، ثم في رزئنا الجسيم. 
اللهم اغفر له، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه.
إنا لله وإنا إليه راجعون.