عدد جديد من"الدرب العربي" لسان حال البعث في موريتانيا

أربعاء, 06/01/2016 - 08:57

تهنئة

 بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، يتقدم طاقم الدرب العربي بتهانئه الحارة إلى كل المسلمين في أصقاع العالم ، راجيا من المولى جلت قدرته أن يبرم للمسلمين أمر رشد وأن يرفع عنهم البلوى التي أصابتهم ، وأن ينصر المقاومات في فلسطين والعراق والأحواز وأفغانستان ضد التحالف الهمجي الأمريكي، الصهيوني، الفارسي، وأن يعيد الأمن والأمان والتنمية واللحمة الاجتماعية للشعب العربي في كل أقطاره، وأن يتقبل منهم الصوم وصالح الأعمال  في هذا الشهر العظيم  .   

الحوار السياسي.. ولعبة الكر والفر.

عجيب أمر السياسيين الموريتانيين ، الذين يلعبون بمصير وطنهم كما يلعب الأطفال .. يتلهون بمآسي شعبهم على أي حال ،بلا فطنة لما في هذا الأمر من  قبح عليهم وشناعة اسم وخمول ذكر لهم. وهذا اللعب والتلهي هو دعوتهم جميعهم للحوار السياسي لإخراج البلاد  من وضعيتها الكئيبة في كل مجال. وعندما يدعو النظام الحاكم للحوار يتوارى المعارضون وراء الشروط ووضع الموانع و" الممهدات" في وجه هذه الدعوة ، حتى يفشل الحوار قبل أن يبدأ . وحين تلين مواقف المعارضة نحو قبول الحوار وتبدي مرونة كافية  أمام النظام ، ينسل هذا الأخير من إرادة الحوار ، كما يستل المخرز من المخيط. وهكذا، تتواصل لعبة الكر والفر، غير المسلية بين الفريقين ، التي أفسدت أذهان المراقبين والأصدقاء في العالم ، وأعمت أبصار الشعب  وحطته في احباط سحيق. . حتى ضج الناس من السياسة والسياسيين ، ويئسوا  من أي خير يأتي من نخبهم ، سواء في السلطة أو في المعارضة. وفي هذه الأيام، بالذات، يحتدم التدابر والشحناء بين المعسكرين   اللذين يقرعان طبول  النفير العام : المعسكر الأول يقرع طبله وينشر أناشيده من أجل " تغيير الدستور" لصالح مأمورية ثالثة أو لمدى الحياة  للرجل الذي لا غنى عنه ، والمعسكر الثاني يبث مواجيده وشكواه من استعادة الدكتاتورية قوتها و "ألقها" بعد أكثر من نصف قرن من مصارعة الاستبداد السياسي  في البلاد. على أية حال، لا نرى موانع موضوعية تحول دون اجتماع أهل الحل والعقد  من الجانبين  على مائدة الحوار لإخراج البلاد من الضائقة السياسية التي تتخبط فيها، ومن شرنقة التجاذب السلبي الذي أرهق البلاد والعباد، وخبرنا نتائجه التي لم تكن تنطوي على فائدة لأي من الفريقين. فلقد علم النظام ، ولو أخفاها، أنه عاجز عن تسيير البلاد وحده، بمعزل عن الحد الأدنى من التوافق السياسي يمكنه من التفرغ لمواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية  التي يتعاظم شأنها ويتضاعف خطرها عليه، هو قبل غيره. كما أن المعارضة تدرك أن " أسطوانة" القطيعة مع النظام والممانعة السلبية، التي تراوح مكانها، لم تكن مفيدة؛ بل إنها قادت المعارضة إلى مزيد من الضعف والابتعاد عن مواقع التأثير . ونقول هذا الرأي، ونحن مدركون أن الخطاب الوطني الجامع قد خسر جاذبيته ، بكل أسف، مع أنه عظيم الفائدة، وأن ما ينجذب الناس إليه  ويثير اهتمامهم، أو كثيرا من نخبهم على الأصح، هو إما التزلف المهين للحاكم وجعله في درجة الأكسجين للحياة،  وإما التجريح والتقبيح والثلب والسب للحاكم، حتى كأنه الشيطان وقد تجسد بشرا سويا . والحال، أيضا، أن النظام و" أغلبيته" الهزيلة، في هذه اللعبة، والمعارضة وخطابها الممجوج  واستعراضاتها المقرفة ، كلاهما مغبون  في هذا الصراع العبثي. والمغبون، كما قال الأولون، لا محمود ولا مأجور. بقي أن يدرك النظام ، وهو الذي يمتلك أوراق اللعبة  وتهدئتها، بفعل امتلاكه للدولة وما فيها، أن تغيير الدستور لفتح مواد عدد المأموريات الرئاسية ، هو شيء منكر وفيه ارتكاب لجريمة الدفع بالبلاد نحو المجهول؛ خصوصا  أن رأس النظام وقبيله يدركون أن الدول التي هلكت أمام أعيننا ؛ وضاعت ، لأجل غير منظور من خريطة العالم، إنما كان بسبب عبث بعض حكامها بدساتيرها واستهتارهم بشعوبهم  وتسمرهم بالكراسي، حتى أصبحت على ما هي فيه، في أيام الناس هذه.. ولا نحسب أن رأس النظام يغيب عنه هذا الأمر الخطير ، أو أنه تنعدم فيه الوطنية إلى هذا الحد المرعب.  كما لا نتوقع من مؤسستنا العسكرية أن تقبل بأمر شنيع ، على هذا النحو المهدد وجوديا لمصير بلدها، إلى الأبد.  وإذن، لا بد أن يعود هؤلاء وهؤلاء إلى رشدهم ، قبل أن تصل السكين للعظم؛ إذ الغافل هو الذي يبقى في الرجاء إلى أن يدركه البلاء... 

 

عمال تازيازت.. الغباء مقرون بفراغ البال.

يعيش عمال شركة ( تازيازت) إضرابا شاملا عن العمل جراء ظروف الغبن التي تفرضها هذه الشركة الاحتكارية على العمال الموريتانيين، الذين ظلوا يواجهون ، لوحدهم، المسطرة الاجرائية التعسفية لهذه الشركة. وإنه لطالما تحدث الإعلام الوطني عن طرد هذه الشركة للعمال الموريتانيين ن بمجرد ما يطالبون ببعض حقوقهم في وطنهم، ومن ثرواتهم المعدنية النفيسة ، التي تنهبها هذه الشركة وأخواتها  بكل غطرسة. ومن المعلوم أن هذه الشركة ، التي رخصت لها الحكومة الحالية باستخراج الذهب في هذه المنطقة ، تحوم حولها شبهات عديدة تناولها الإعلام المحلي والعالمي، من قبيل لجوئها لرشوة كبار المسؤولين في الدولة الموريتانية للتستر على نهبها وكذبها ، وللتغاضي عما تقوم به من اجراءات ظالمة بحق العمال الوطنيين فيها. واليوم، تمكن العمال الموريتانيون من تنظيم اضراب شامل وناجح ، بكل المقاييس، وبهذه المناسبة نهيب بالحكومة الموريتانية أن تنحاز إلى حقوق مواطنيها ، وأن تمارس ، وفق القانون الوطني والدولي، ما يلزم من ضغط على هذه الشركة لتفتح حوارا جديا مع مناديب هؤلاء العمال وأن تستجيب لتلبية حقوقهم. لقد استفحلت هذه الشركة  بفعل غياب الدولة ، فيما يبدو، عن مراقبة أعمالها وتصرفاتها، مما جعلها لا تقيم وزنا لأبنائنا العاملين بها، حتى سعت لاستجلاب عمال أجانب ليحلوا محلهم، في انتهاك صارخ للقانون، وفي إشارة لا يخطئها المراقب إلى احتقار إدارة هذه الشركة ، ليس بالعمال فحسب، وإنما بالحكومة والبرلمان وكل الشعب الموريتاني. إن السبب في ذلك هو القصور الذي أدركته الشركة في أداء الحكومة، وخصوصا منه ما يتعلق بعدم احترام حكومتنا الوطنية لمواطنيها، وغيابها عن الدفاع عنهم، عند الاقتضاء. كما أن تقصير المناديب ، إلى درجة التحلل من المسؤولية والوطنية فيما يخص النخوة وسلوك هذه الشركة إزاء نهب ثروة البلاد من الذهب، هو الذي شجع  قادة الشركة على الاستخفاف بالشغيلة الوطنية، وقلل من توقعها لردة فعل جدية  من طرفهم. فعمال لا يهتمون إلا بما يتعلق برواتبهم وامتيازاتهم  الشخصية لا يستحقون الاحترام عند الآخرين. ونتيجة لذلك القصور من الدولة وهذا التقصير من العمال تجرأت شركة ( تازيازت) على الاعتقاد أن البلاد بشعبها وحكومتها وثرواتها فوضى، وفي أقوى الحالات كل ذلك في أيدي أغبياء مقرونين بالجهل وراحة البال..

 

لماذا البعث.. وما ذا خسر العالم بغيابه؟.

لما كان غياب البعث ، عن مشهد السياسة الدولية ، قد أدى إلى هذا الضياع ، وهذه الحرائق  التي تزداد اشتعالا ، ولما كان غيابه عن التأثير في ضبط وحماية  السياسة العربية قد أنتج ما كان البعث نفسه قد حذر منه منذ أمد بعيد: وهو أن حكام العرب إذا ما تورطوا في دعم مشروع الامبريالية الأمريكية ، بإطاحة نظام حزب البعث في العراق  ، فإن إعصارا هائلا من الفوضى سيقتلعهم من كراسيهم. وهذا ما كان.  فلماذا يتواصل التآمر على البعث ومقاومته ، ولماذا يصر من تبقى من حكام العرب –  الذين تهتز كراسيهم – على مسايرة أمريكا وإيران في مخططهما في العراق؟. فلمصلحة من هذه الحرب الإبادية التي تشنها أمريكا وإيران والميليشيات الصفوية الإيرانية  على الفلوجة؟ .. ولماذا نكذب أعيننا والوقائع الحية  أمامنا، ونصدق إعلام أمريكا وإيران  أن هذه الحرب  موجهة ضد هذه الكذبة  الكبيرة، التي تسمى " داعش". وكيف  يستسيغ عاقل أن قناتا العربية والعربية- الحدث تغطيان إبادة العراقيين  في كل مدينة  من مدنهم بنشوة  المنتصر وشهوة الفارسي  الحاقد؟. فلمن تعود ملكية هاتان القناتان؟. وفي سياق هذا الوضع الذي وضعتنا فيه أنظمة  فاسدة ، ربطت مصيرها بالأجنبي  وقلب لها ظهر المجن نهيب بالبعثيين  خصوصا والقوميين والتقدميين عموما، الذين ترجلوا من مسيرة النضال في الوطن العربي، وبخاصة في موريتانيا ، فنفول لهم  إن الأحداث التي تمر بها الأمة العربية ، في الجملة، وعلى مستوى كل قطر من أقطارها، هي أحداث أكبر  وأخطر من أن يواجهها  حزب بذاته أو حركة ، أحرى أن  يواجهها رجال انكفأوا في بيوتهم ، حسرة على الماضي، وفضلوا العيش على سرد وقائع التاريخ، أو بالدخول في واجهات ليبرالية  او هجينة ، أقصى طموحها  الحصول على تمثيل برلماني في انتخابات  بتمويل أجنبي، وغالبا ما تكون مثيرة للجدل ومشكوك في نزاهتها.  فما قيمة ذلك ، إذا كانت أمتنا تواجه حرب إبادة وإفناء ، متمثل فيما تقوم به القوى المعادية  حضاريا، في تحالف ، غير مسبوق ، بين الشرق والغرب. وما قيمة ذلك، أيها الوطنيون من كل العناوين ، وما قيمة هذه العناوين الحزبية إذا كان أصحابها قد استقالوا من النضال في وجه هذا التمدد الحضاري الرهيب . خصوصا أن بعض هذه الأطراف  تتحدث صراحة عن تجاوز شعارات الوحدة العربية. فهل نرى فيما  لو تمزقت موريتانيا، لا قدر الله في ظل هذا التخاذل،  إلى كيانات  مصطنعة من قوى دولية، من بيننا من يعتبر الدعوة لإعادة توحيد البلاد عملا متجاوزا ومجرد شعارات ليس في الامكان تحقيقها، وبالتالي يتوجب العمل فيما هو موجود من كيانات يقرها الأقوياء بحقنا، مثلما تعتبر الوحدة العربية ، اليوم، شعارا وحلم يقظة، لم يعد مطروحا، لأن أمريكا وحلفاءها لا يقبلون بها  ويعدونها من وحي الخيال. عودوا إلى أنفسكم أيها البعثيون والوطنيون المستقيلون من المعاناة والنضال، وأدركوا وضعية أمتكم  التي  تتطلع إلى من ينقذها من براثن التحالف الغربي- الفارسي. إن المال وما يتيحه من راحة بال  لن يكون مجديا في ظل الاحتلال وسلب الكرامة، وإن الذي يبقى هو المعاني الخالدة التي ترتبط بالدفاع عن الأوطان ومناصرة القضايا العادلة ، وهو ما يتنافى مع ثقافة الذل والخنوع. خصوصا أنكم  لم تستفيدوا ماديا أو رمزيا من أي من هذه الأنظمة ، عقابا لكم على ما  أمضيتم من تاريخ نضالي مشرف. فقد بقيتم على هوامشها وحواف واجهاتها ، بلا تأثير و لا فائدة   حتى لأشخاصكم. عودوا إلى نقطة البداية، فهذه بلدكم تتشرذم بسبب استقالتكم من النضال ومحاكاتكم للسياسويين . فلا بد أيها الرفاق من العودة إلى نقطة البداية وإعادة وحدة النضال، ولو من منصات مختلفة أو بدعم مسؤول للمناضلين القابضين على الجمر في منازلة تاريخية وحضارية غير متكافئة بالمقاييس المادية، في طريقكم لاستئناف واجبكم الوطني والقومي والانساني، أي عودتكم لحزب البعث..

إبادة الفلوجة إرادة أمريكية.. بتنفيذ إيراني.

... لأن مدينة الفلوجة استعصت على الغزاة  منذ الاحتلال البريطاني، وإلى الاحتلال الأمريكي ، ولأن الفلوجة انتزعت رمزية المقاومة الوطنية العراقية ، وحازت أعظم التضحيات في سبيل عزة العراق وشعبه ، لهذا تجد الفلوجة ، اليوم، نفسها في مواجهة تحالف أمريكي إيراني  لإبادة أهلها ومحوها من الخارطة . ولأن إبادة الفلوجة  إرادة أمريكية ، بأيدي جحافل المليشيات الصفوية الفارسية والحزب الاسلامي الاخواني ، فإن العالم يلتزم صمتا مخزيا وهو يرى هذه الإبادة الجماعية  لأكثر من مائة وعشرين الف نسمة ، من الأطفال والنساء والشيوخ. فحتى تلك الحكومات العربية وأحزاب الإسلام السياسي ، التي غالبا ما تنضح خطاباتها بالطائفية " السنية" ، حتى هذه لم تستطع أن تخرج بيانا إدانة لهذه الجرائم التي ترتكبها إيران وميليشياتها  بإسناد  قطعان حكومة العملاء التي تحكم بغداد، وذلك خشية إثارة غضب أمريكا . ومع ذلك، تريد هذه الدول وتلك الحركات الاسلاموية أن نعطي مصداقية لشعاراتها الدينية ، التي لا تخرج عن وجهة السهم الذي تنصبه لها أمريكا . فإذا رفعت أمريكا صوتها على جهة إقليمية أو دولية ، تنادت هذه الدول وهذه الحركات ترغي وتزبد معها ، وإذا أشارت لها بالتوقف توقفت مستطيبة نفسا بالمذلة والهوان. فسبحان الله، أحيانا يضيع المرء في متاهات التأمل في مواقف هذه القوى التي تحسن الصياح في الأوقات الضائعة، وحين يجد الجد ويبلغ الخطر مبلغه تتبخر هذه القوى هباء غير منظور. وإلا، هل يصدق كائن من كان أن الدول التي يحكمها " خطاب سلفي سني عصبي" تعجز عن تصريح يدين عمليات الإبادة التي تقوم بها عصابات ميليشياوية  طائفية صفوية، وهل يعقل أن  تنظيمات الاخوان المسلمين في أصقاع العالم تفوت فرصة الصراخ على أهل الفلوجة " السنة" لو لم تكن تعرف أن  " إخوان العراق" هم شريك في العملية السياسية التي أنتجها الاحتلال الأمريكي في العراق، وبالتالي هم طرف في عملية الإبادة التي تريدها منهم أمريكا؟.  أليست مدينة الفلوجة مدينة من المسلمين، مثلها مثل مدينة غزة، التي أقاموا الدنيا ، وهم محقين، حولها، بل اختزلوا فيها فلسطين كلها.  أم أن المسلم غير الإخواني لا حرمة له عند هؤلاء؟. لقد كان من الواجب الديني أن يقف الإخوان، لو أنهم كانوا صادقين في شعاراتهم ، مع الفلوجة ، لو لا  خيانتهم للعراق بدخولهم في العملية السياسية الاحتلالية وقبولهم بدستور بريمر الذي مزق بموجبه، هذا الامبريالي، النسيج  الاجتماعي في العراق. أما الإعلام  " العروبي الأحول" فإنه يعيش حالة تشوه ، وبسببه  بقي يتفرج بشهوة على إبادة الفلوجة ، لأن القتلة  يقودهم ( القومي العربي، قاسم سليماني ) باسم  الولي الفقيه ، الخامنئي، الذي ( يبذل الغالي والنفيس  لتحرير العراق  من أمريكا التي اشترك معها في احتلاله). فهؤلاء " العروبيون"  ينظرون إلى إيران كأصفا وأرقى قوة للممانعة والمقاومة ، حتى لو ابتلعت العراق والشام، كما الحال اليوم،  والجزيرة العربية، كما تخطط له غدا. إنهم مثل ذنب الديك ،يميلون مع كل ريح ، لا يحيون ولا يستحيون. فقد كانوا ، فيما مضى،  أسرع الناس إلى الفتنة، وهم اليوم أقلهم حياء من الفرار: أموات غير أحياء ، لا يتحرجون من ذم ، ولا يحفلون بثناء...

 

الثقافة الانعزالية.. هدية للافرانكوفونية. ( ح1).

حين قدم الاستعمار الفرنسي البغيض إلى موريتانيا، لم يكن يجهل مجتمعنا مثلما أنه لم يكن يتخبط في أهدافه ومشروعه الاستعماري. فلقد جاء المستعمر بعدما  قام بدراسات سوسيولوجية  وآنتروبولوجية عميقة عن المجتمع، مكنته من الوصول إلى أدق التفاصيل في نقاط الضعف والقوة في المجتمع. فجاءت " طلائع" الاستعمار وهي على دراية تامة بالعادات والتقاليد ، والبنية الوظيفية  لكل فئة من هذا المجتمع.  وقد توصل المستعمر الفرنسي ، بحسب ما دون في أرشيفه، إلى ركيزتين هامتين في لحمة الموريتانيين، برغم وجود مظاهر ضعف أخرى. فالدعامة الأولى هي الاسلام الذي يدين به  جميع السكان، بل ووفق المذهب المالكي . أما الدعامة الثانية فهي اللغة العربية التي كانت توحد نخبة البلاد من العرب والفلان والزنوج، على حد سواء. وعلى أساس الوحدة المتينة في الدين واللغة العالمة ، فضلا عن الثقافة الافريقية ، الفلانية والسونوكية، وقابليتها للتشبع بقيم التسامح والمحبة ، امتزج  الموريتانيون ، عربا وزنوجا ، امتزاجا مكينا بالمصاهرة وحسن الجيرة ، حتى تبادلوا الأسماء والألقاب ، وحتى ذابت أسر عربية كثيرة  في الفلان والزنوج ، مثلما حدث العكس. ولذلك، انخرط الموريتانيون جميعا في الجهاد المقدس ضد الغزاة الفرنسيين  ، واختلطت دماؤهم الزكية دفاعا عن الأرض والعرض والدين. ولما أدرك الغزاة متانة اللحمة ، فقد تبنوا أسلوب التفرقة ؛ واتخذوه أداة  لتنفيذ مشاريع التقسيم والتفتيت ، وأوغلوا في هذا المنهج التخريبي للحيلولة دون الرجوع إلى استلهام مثالية التلاحم التي ميزت جهادهم . وفي سبيل انجاح هذا المخطط، اتبع الغزاة أسلوب التضييق على المحاظر القرآنية ووضعوا كل المغريات والعراقيل لصد الموريتانيين ، عربا وتكرورا وسونوكيين، عن تعلم اللغة العربية، فيما فرضوا على الناس تعلم لغتهم وادخال الأطفال في مدارسهم، وخصوصا أبناء الأعيان  وغيرهم من العناوين المؤثرة في المجتمع. وقد قاوم الموريتانيون هذا الاستعمار الثقافي بجهاد ثقافي وعلمي مجيد؛ وواجهوا جهود فرنسا بمقاومة ثقافية قل نظيرها في الشعوب التي ابتليت بالاستعمار الغربي. لكن فرنسا لم تستسلم ، بل واصلت جهودها ، حتى بعدما رحلت عسكريا عن البلاد؛ فتركت خلفها "نخبة" ممسوخة ومشبعة بثقافة وحب المستعمر ، واصلت مشروع فرنسا في ظل " دولة الاستقلال" . ولقد انتهجت فرنسا هذا النهج ذاته في الجزائر ، بل في كل أقطار المغرب العربي؛ حيث أقامت أساليب جهنمية في " زرع الثقافة والتفرقة ما بين مكونات هذه الأقطار. ورغم المحاولات البائسة ، إلا أنها فشلت في انجاز مشروعها فبقي الشعب موحدا ومقاوما لسياسة الاستعمار . ولذلك، لم يستثن الاستعمار أية مكونة بل شمل كل المكونات ، أما زيغ، وعربا وطوارق وزنوجا. ولم يخص المستعمر أي مكون بدعايته ، بل عامل الجميع بالاضطهاد و الاهانة والنهب والتشريد، طيلة وجوده على تراب منطقة المغرب العربي. وقد تحرك أبناء هذه المنطقة بفضل المقاومة المسلحة ، حتى اضطر الغازي للانسحاب، ولكنه ترك أزلامه ومشاريعه بتنصيب أنظمة ولوبيات تابعة له... 

  

عيون البائسين بلا هجوع..

السجال السياسي الذي تدور رحاه في نواكشوط حول الدستور وما "يتهدده" من احتمال تغييره ، وكذلك المواجهة الاعلامية فيما يتعلق بنية  رئيس الجمهورية  في تنظيم استفتاء شعبي لشطب مؤسسة مجلس الشيوخ ؛ هذه المواضيع التي تبدو الشغل  الشاغل للسياسيين في نواكشوط لا تحظى بأي اهتمام من مئات الآلاف من الموريتانيين الذين يكابدون شقوة الحياة في آدوابه والقرى الريفية من سكان البدو الذين أجبرتهم قسوة الجفاف على التجمع في قرى تفتقر لأدنى متطلبات الحياة البشرية. فهؤلاء المواطنون تنصب اهتماماتهم  حول توفير مياه الشرب ولو ملوثة من آبار  شعبية تفوح منها رائحة الأعواد والحشائش المتعفنة، وأحيانا يستقون من بقايا مياه راكدة تركتها سيول الوديان  في مواسم مطرية سابقة، غالبا ما تحول لونها إلى الخضرة جراء تكاثر الطحالب والفطريات الأخرى. وعندما يتوفر هؤلاء على مياه لإطفاء حرقة العطش ، فإن باقي اهتمامهم  يستغرقه  توفير ما يقيمون به أودهم من طعام، في أحسن حالاته، بين عصيدة من البطيخ الأبيض ورديء الأرز وأوراق الفاصوليا وحبوب بعض النباتات البرية، مثل ( آز، ومتري). وإذا كان السياسيون في نواكشوط  يعودون لقصورهم أو منازلهم ، بعد شجارهم على الأثير، ليتناولوا ، على رخاء، ما لذ وطاب من طيبات الرزق ، وهم في ذلك على تفاوت كبير بينهم، ثم ليناموا  فوق فرش وثيرة ووسائد مريحة، فإن هؤلاء المواطنين الفقراء ينامون على لباد متهالكة وتحت أضلاعهم حصى بحجم كرات الحديد التي يلعبها أطفال المدن، فيبيتون يتقلبون على هذا الحصى  في بؤس وجوع، دون أن ينعموا براحة النوم ؛ يدور الموت بين أيديهم ومن خلفهم ، فلا هم يموتون فيخفف عنهم من عذاب  الدنيا، ولا هم يحيون فيها حياة بني آدم. فهذه الانسانية المعذبة بالفقر والجهل لا يهمها  الدستور، و لا شطب مجلس الشيوخ من الوجود ، ولا يعنيها المأمورية الأولى ولا العاشرة... ولا المعارضة ولا الموالاة. إنما يهمها هو توفير الحد الأدنى من مقتضيات الحياة الكريمة. فالذي ينام عريانا وجائعا  وجاهلا ومريضا، ويستيقظ كل يوم على هذا الشقاء لا يؤخذ رأيه  في المأمورية " الثالثة" ولا في تغيير الدستور، لأنه في شغل شاغل عن ذلك. فهذا الملف، في نظرهم، من كيد السياسيين  ومكرهم وتشتت آرائهم وتخاذل زعمائهم وتغول جشعهم وإفراطهم وتفريطهم. أما مشاكل الجياع والبائسين فهي في توفير لقمة عيش واطفاء حرقة عطش ، وعلاج مريض وتعليم طفل وافتراش حصير. وبكلمة واحدة ، هؤلاء لا يريدون ، في مثل هذه الظروف، أكثر من حقهم في الحياة الكريمة في وطنهم.

 وقد قيل:

يعيش الأغنياء على رخاء            ونحن نعيش في بؤس وجوع

تنام عيونهم بالليل ولكن                   عيون البائسين بلا هجوع.

 

 

المواطن بين مطرقة الواقع.. وسندان الخوف من المستقبل..

 

لا ريب أن الظروف التي يعيشها المواطنون قاسية جدا، من حيث ارتفاع أسعار المواد الغذائية  التي لا غنى عنها ، ومن حيث انتشار البطالة بين الشباب وتفشي الرشوة والمحسوبية ، وتراجع هيبة الدولة، بعدما انتعشت  قليلا ومؤقتا مع رفع شعار محاربة الفساد. كذلك، فإن الأزمة السياسية التي تتجذر باطراد ، فضلا عما يهدد تماسك وحدة مجتمعنا من صراعات اجتماعية سلبية، تأخذ مع الوقت أسلوب التفرقة والتشتيت بدعم من قوى دولية  تشتغل على هذا الهدف ، في ظل قصور في أداء الدولة  وتقصير من نخب المجتمع  الوطنية في معالجة مشاكل التناقضات الاجتماعية  وتداعيات التسيير السلبي  لتنوع مكونات المجتمع الاثنية  واختلاف روافده الثقافية . نقول لا ريب أنها مقلقة للغاية  للذين يمتلكون الوعي  بها. إن حزب البعث العربي الاشتراكي ، الذي يعتبر من الطبيعي جدا وجود الاختلاف  والتنوع في مكونات مجتمعنا، ليدعو النخب الوطنية، من كل العناوين، إلى الارتقاء، في أدائها السياسي وأساليبها العملية، إلى المستوى  الذي يعكس وعيا وطنيا كافيا بخطورة ترك هذه الأزمات في أيدي أطراف رهينة لأجندات دولية دأبت على العبث بوحدة المجتمعات ، وعملت على تفتيتها وتمزيق أواصر لحمتها، تحت شعارات ظاهرها الرحمة ومن قبلها العذاب، من قبيل الانتصار للأقليات والفئات المهمشة، فيما هي ، على الحقيقة، تستثمر ، بخبث، في تلك التناقضات الاجتماعية، سواء كانت مذهبية أو طائفية أو اثنية أو قبلية أو فئوية... وهنا تكمن خطورة  استقالة النخب الوطنية من لعب دورها الايجابي لتترك الأجنبي يظهر، دون تكلف، أنه الأحرص على إعادة العدالة والانصاف للمظلومين والمحرومين في مجتمعنا.   ن الظروف أ أ  وعندما تكون الرداءة ، في كل المستويات، وفي كل الشرائح والاثنيات، هي التي تتصدر المشهد، فإن المجتمع برمته يصبح محكوما بالصراع المهلك، كما نعيشه في مجتمعات أسلمت قدرها في أيدي أعدائها، وغرها ما كان هؤلاء يروجونه من معسول القول. إن حزب البعث يتطلع ، ليس إلى فئة السياسيين الذين يتدافعون من أجل السلطة ومنافعها، بل إلى تلك النخب الوطنية الكثيرة المتوارية عن المشهد ، فيما يشبه الانسحاب الجماعي من الحياة ، للإسراع لوضع حلول وطنية، نابعة من قيم مجتمعنا وتصب في مصلحته بكليته، تعيد العدالة والانصاف إلى المهمشين، وتسترجع الكرامة الانسانية المهدورة للذين عانوا من الامتهان. إن هذه المهمة النبيلة تستدعي جهود الوطنيين جميعا ، من كل الفئات والاثنيات، لأنها مسؤولية هذه الطلائع الوطنية الواعية، التي تدرك قيمة الاستقرار الاجتماعي . فمصلحة الجميع لا تتحقق إلا في تقوية وظائف الدولة ومساعدتها على تجميع كافة طاقاتها وتعزيز مختلف مؤسساتها، بوصفها الجهاز المنظم القادر ، في هذه الحالة، على " بناء مجتمع مدني تترسخ وتسود فيه ثقافة التعايش السلمي وقيم التواصل والانسجام، تكون الحريات والخصوصيات الفردية والجماعية خطوط حمراء... فلا يعامل الناس أو يصنفون بحسب انتماءاتهم العرقية أو المذهبية أو الجهوية أو القبلية، وإنما بحسب انتمائهم وولائهم المطلق للوطن، باعتباره الفضاء الخاص لكل الأطياف والثقافات... فلا بد ، إذن، من الاستعداد والإسراع إلى صياغة مثل هذا المشروع وتفصيل الأرضية التي يقوم  عليها والمراحل التي يمر بها من الناحية العملية ومتابعة انجازه وفق المراحل المسطرة وما تتطلبه كل مرحلة من آليات وبرامج..."..  

  

اللغة العربية.. منصة لاسترجاع الصدى..

كل الموازين ، في هذه البلاد، يعتريها  عيب ظاهر أو خفي؛ وكل العقول بها تخبلت؛ وكل الناس في عجلة من أمرهم للكسب ، مع الزهد في الانفاق.. وكل يتوسل لطائف الخداع ، في أمثل الأحوال، أو يتوسل خشونة المضجع  وشراسة الطبع في سبيل مصالحه. ولطائف الخداع هي العملة الرائجة لتستر المرء على سوء أثره في أهله. أليس هذا مما نعيشه ونراه رأي العين كل يوم وندفع  بسببه ، عبثا، نتائج التجارب ونضيع به محطات من عمر مهدور، حتى بات الناس لا يثق أحدهم في أحد، ولا يعيرون وزنا لقول، ولا يكترثون بفعل شاخص. تلكم هي المأساة التي يعرفها الجميع ويريد الجميع  تجاهلها، لعل الناس، أنفسهم، يكذبون الوقائع ويصدقون المزاعم، التي لا ينهضها دليل. في مثل هذه الكرنفالات الكئيبة، كرنفالات حيص بيص، يصبح المرء وطنيا من طراز عال، ويمسي بائعا متجولا لوطنه وقيمه وهويته ولغته. هنا، تندرج ندوات تختلط فيها " الكلمات والأشياء"  وتختفي فيها الفواصل بين الأضداد، إلى أن وجدنا  محفلا " كريما" تداعى إليه، من كل قصر منيف، رجال خلطاء يدافعون عن اللغة العربية بعجمة وركاكة، وأحيانا يدافعون عنها باللغة الفرنسية، التي هي السبب فيما آلت إليه العربية من وضع بائس ، في هذه البلاد. هؤلاء الخلطاء يتحدثون ، بالأعجمية، عن مزايا اللغة العربية ويتندرون بعبقريتها ، بينما هم ، بين ذويهم يطمسون قيمتها ويجرحون سمعتها وينكرون فضلها، حين يرسلون أبناءهم ، في وطنهم، إلى مدارس الإفرنجة، وإلى مدارس الأعاجم التي لا يسمع فيها أطفالهم حرفا من لغة العرب، ليتخرجوا منها منتوجات أجنبية خالصة، على سنة أبيهم وزير التعليم العالي، بدافع تأهيلهم لامتلاك ناصية اللغة التي تمكنهم من الكسب المادي وتحيلهم أوعية لثقافة مجتمعات أخرى بذلت وتبذل جهودا واسعة للذود عن مصالحها بالدفاع عن لغاتها والاستثمار الفعلي في تطويرها. أما نحن فنكتفي ، في دفاعنا عن اللغة العربية، باعتلاء منصة ، من كل سنة أو سنتين أو أكثر، فنثير من فوقها قعقعة سيوف خشبية لم تقلق، يوما، طائر ( أبو طيط). فأية خميرة ترجى من هذا الفطير، وما ذا تستفيد اللغة العربية من هكذا "خرجات" إعلامية لا طعم بها ولا رائحة، إلا كما يستفيد الأعمى من المرآة في كفه.. وإلا ما يلتقطه الطائر من حانوت الحداد.. إنها مجرد فرقعة  كلام وفقعات صابون في الأثير  لا تسر صديقا ، ولا تقلق خصما. وفي أحسن ما  تعود به أنها رقصة المذبوحين  في المشهد السياسي، وسعي منهم ، غير متفائل، لاسترجاع الصدى...