خطيئتنا كانت الأمل

ثلاثاء, 04/26/2016 - 17:34
الياس خوري القدس العربي

جاء تصريح رئيس الحكومة الإسرائيلية عن الجولان السوري المحتل باعتباره جزءاً من إسرائيل إلى الأبد، وكأنه من خارج السياق، فالعالم منشغل بمآسي اللاجئين السوريين، والمشرق العربي يتآكل، والشعب السوري يقاوم الموت تحت البراميل المتفجرة، ومصر تتنازل عن تيران وصنافير، ولبنان غارق في روائح النفايات، وإلى آخره. 
لماذا قرر نتنياهو إطلاق تصريحه عن الأبد الاسرائيلي في الجولان المحتل؟ لاحظوا معي التوازي بين شغف الفاشيين الإسرائيليين بالأبد، وشغف الفاشية الأسدية بالأبد ايضاً. «القدس عاصمة أبدية لإسرائيل»، و»رئيسنا إلى الأبد حافظ الأسد». الهوس الاسرائيلي بالأبد انتقل اليوم إلى الجولان معلناً تأكيد ضمه إلى الدولة العبرية، أما هوس بشار بأبد أبيه فقاده إلى افقاد سورية سيادتها على أراضيها، فصارت سورية ملعباً للقوى الاقليمية والدولية التي جاءت لنجدة سلطة الابن المتهالكة. 
نتنياهو يعلن قبيل زيارته لحليفه الروسي أنه شريك في لعبة السيادة على الخريطة السورية الممزقة، ويحجز حصته مسبقاً، ويدغدغ العنصرية الاسرائيلية التي وصلت إلى ذروتها في الاستقبال «البطولي» الذي حظي به الور عازاريا الجندي الاسرائيلي القاتل الذي قام بتصفية الفلسطيني الجريح عبد الفتاح الشريف. عازاريا مُنح إجازة من السجن كي يحتفل مع أفراد عائلته بالفصح اليهودي، فتحول العيد إلى احتفال لتمجيد الجريمة في الرملة.
واللافت أن هذا الأبد الإسرائيلي صار جزءًا من خطاب بدأ العالم يعتاده، فلم تعد المستعمرات في الضفة الغربية، ومظاهر التمييز العنصري التي صارت سمة الدولة العبرية تثير غضب العالم، أو تستدعي تذكيراً بالقيم الإنسانية، فنحن في زمن ما بعد القيم، زمن تتوحش لغته وتنهار معانيه.
لا معنى لتذكير الفاشيين في إسرائيل بالقيم، فلعبتهم قامت دائماً على لعبة ابتزاز القيم. ولا ضرورة للكلام عن انهيار القيم في انظمة عربية مستبدة حولت البلاد بأسرها إلى سجن كبير. في الحالتين الإسرائيلية والعربية هناك ما يشبه التناغم كي لا نقول التواطؤ، وهو تناغم عميق قائم على رؤية عنصرية تقول إن المشكلة هي في الشعوب العربية. الصهيونية، بأجنحتها المختلفة، سعت وتسعى إلى «تخليص» الأرض من أصحابها، لأنهم لا يستحقون أرضاً وعد الله بها «شعبه المختار»، والفاشيات العربية بنت نسقاً من التعالي، وتصرفت بصفتها آلة قمع وقولبة واستبداد. المهمة الصهيونية تحولت إلى فاشية معلنة لا تخجل بعنصريتها بل تتباهى بها، أما الفاشيات العربية فصارت آلة تحطيم للمجتمعات العربية، وعصابات للنهب والفساد، وانتهت إلى التخلي عن السيادة الوطنية.
هذه هي المعادلة التي يعيش في ظلها المشرق العربي، حيث تجد الأصوليات أرضاً خصبة للوحشية المطلقة. في بلاد العرب وفي فلسطين المحتلة الحكاية نفسها ولكن بأشكال ولغات مختلفة.
هنا يقع السؤال الثقافي العربي، وهو سؤال سياسي بمقدار ما هو سؤال فكري. والسؤال يبدأ بقراءة لحظة التفكك التي نعيش. والمشكلة أن التيارين اللذين يطفوان على سطح النقاش، وهو نقاش صحافي وركيك أساساً، يتبنيان الخطاب الاستشراقي بتلاوينه المختلفة. فالحداثويون يرون المشكلة في بنية الثقافة العربية، ويعيدوننا إلى خطاب استشراقي، سبق لادوارد سعيد أن حلله وفككه وبرهن على خوائه، فيكونون كمن يخوض حرباً وهمية على المستوى الفكري، لكنهم يصيرون بوعي أو من دون وعي، جزءاً من آلة القمع الوحشية التي تمتد من واشنطن إلى تل ابيب وصولاً إلى دمشق. أما الأصوليون فيندفعون إلى تبني خطاب عدوهم معلنين تأبيد الماضي، وبذا كشفوا لُبّ مشروعهم السياسي الذي لم ولن يكون سوى تفصيل صغير في خريطة الاستبداد.
وبين هذين التيارين السائدين يقع الناس ومجموعات من النخب الجديدة التي تواجه الهول. من شباب مصر الذين يسجنون ويقتلون، إلى المعتقلين والمنفيين السوريين، إلى المشردين العراقيين، إلى المثقفين الشهداء في لبنان من حسين مروة إلى سمير قصير. هذه النخب الثقافية السياسية تتشكل اليوم في مقاومة عتمتين: عتمة الحداثة النخبوية التي ولدت في أحضان فكر قومي شبه فاشي، وعتمة الأصوليات التي وجدت في الكاز والغاز منفذها إلى التوسع الكبير. 
ضد هؤلاء وأولئك على الثقافة أن تجد نقطة إنطلاق جديدة، وتؤسس رؤية متحررة من وحشيتين تجدان اليوم في الهمجية الصهيونية رديفاً وحليفاً سرياً وعلنياً.
ربما كان الأمل هو الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه الثورات الشعبية العربية. وهو الخطأ عينه الذي وقعت فيه القيادة السياسية الفلسطينية حين اعتقدت أن انتفاضة اطفال الحجارة كانت كفيلة بتحريك الضمائر الميتة، فسقطت في منقلب أوسلو، وحولت الأمل إلى كابوس. الأمل نفسه او ما يشبهه اجتاحنا مع بدايات «الربيع العربي»، كنا نأمل أن يكون خروج الناس إلى الشارع مطالبين بالحرية كافيا كي نصل إليها، ونمنع آلة القمع من الدوس على أجسادنا وأحلامنا. لكن ضمير «الرئيس السوري المنتخب» بحسب أدونيس، لم يردعه عن قمع الناس بوحشية مطلقة. ومن المؤكد ان هذا القمع لا علاقة له بخروج المظاهرات من الجوامع، لأن «الرئيس المنتخب» لجأ إلى من جاء للدفاع عن مقام السيدة زينب تحت شعار «زينب لن تسبى مرتين»، ولم يجد في العلمانية التي يدّعيها رادعاً عن استخدام خطاب أصولي طائفي ديني. 
ومثلما سقط الرهان على «الضمير الاسرائيلي» ومعه «الضمير الامريكي»، فان الرهان على الضمير العلماني للمستبد الصغير في دمشق سقط هو الآخر.
خطيئتنا كانت الأمل، (مع الاعتذار من سعدالله ونوس) هنا في سورية وهنا في فلسطين، وهي خطيئة نابعة من نجاح الاحتلال والاستبداد في تحطيم السياسة في بلادنا، ومن تفاؤلنا الساذج بأن صرخة الحرية هي العلاج السحري الذي ينهي الاستبداد والاحتلال. (وهو تفاؤل يجب الاعتراف بأنه جزء من إرث الفكر الانقلابي والنخبوية اليسارية التي علقت بنا).
دخلنا من «بوابات أرض العدم» (وانا هنا أستعير عنوان كتاب سمر يزبك الآسر)، لنكتشف أن علينا أن نبدأ حكايتنا في ركام المدن والقرى وركام الأرواح المعذبة. السؤال الثقافي في هذا الركام ليس تهويمات نخبوية مستلة من آخر كتاب إفرنجي قرأناه أو ترجمناه، بل هو بناء للقيم الانسانية.
نتخلى عن الأمل كي نخوض في وحل لغة الصمت، ونرث عذابات تدمر وعنجر وفرع فلسطين ونفحة وهداريم وجلبوع وأبو غريب والواحات، ونكتب بالألم لغة الألم.

الياس خوري