المحاظر و الدولة ((الفوقية))

أربعاء, 02/17/2016 - 15:13

" انه من يعش فسيري اختلافا كثيرا" 
لا يختلف اثنان علي  المكانة السامية التي عرفت الجامعات المتنقلة  في  ارض شنقيط  و الصيت الرفيع الذي حظيت  به علي  إثرها عربيا وإسلاميا، جعل من المحاظر رمزا شامخا و سفارة حقيقية تفوق كل السفارات.   تلك المحاظر التي أسست علي تقوي من الله، أئمتها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهبوا نفوسهم لبث العلم لا يريدون به جزاءا و لا شكورا وطلبة جاءوا من كل فج عميق، جاءوا ليتطهروا من أردان الجهل والله يحب المتطهرين. تلك المحاظر التي  أنجبت أمثال ولد التلا ميد أولاد مياب(احد هم كان مفتي المالكية في المدينة المنورة ) أولاد محمدي و اللائحة تطول.  لكن هذا المد المحظري شهد تراجعا بات ملحوظا في العقود الماضية،  تري ما هو السر في ذالك  ألا يحق لنا أن نتساءل عن طبيعة العلاقة قديما وحديثا  بين هذا الفضاء المحظري الخصب و الدولة الحديثة ، ما هي النظرة أو السياسة التي انتهجتها الدولة حيال هذا الكيان الموروث قبل نشأتها وهل حقا إن الدولة تناسته دون أن تجد غضاضة في ذالك.
    إن المستقرئ لتاريخ المحاظر مرورا بظروف نشأة و قيام الدولة دون الاعتماد علي دراسات متخصصة، يستطيع إن يدمجها في ثلاثة مراحل 
1-المرحلة الأولي يمكن وصفها تاريخيا بأنها الأهم، فقد امتدت من نشأتها و حتى إرهاصات الدولة، شهدت فيها المحاظر ازدهارا وأوجا واسعا في كل العلوم و الفنون  حتى تغنوا بأمجادها 
                                        قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة   بها نبين دين الله تبيانا.
في هذه الفترة، كانت  المحاظر هي الملاذ الوحيد لكل طالب يبحث عن التزود بعلوم اللغة وعلوم الشرع فبرغم قساوة الحياة وصعوبة الظروف في هذه البلاد النائية تعددت المحاظر وكثر الإقبال عليها وتداولت الناس أخبارها وتشكلت لديهم ثقافة محظرية لها أدبها وعاداتها...الخ. (1).
بلغ العلم أوجه في هذه الفترة وكثرت المؤلفات و الشروح و الانظام فقد ألف العلماء في كل فن، في الفقه، في اللغة في الأصول وطرحوا ضوابط (الطرة) لأمهات الكتب التي يدرسونها من شواهد و شروح تسهل علي القارئ تلقيها. كما كان للشعر دورا بارزا فقد حيكت القصائد و الأشعار في كل غرض وكثرت المساجلات حتى تسمت الأرض بكثرة شعرائها و قيل إن الذين تكلموا عن عصر الانحطاط في الدول الشرقية لم يكونوا علي دراية بما يجري في المغرب الاقصي.    
في نهاية  هذه المرحلة ومع مجيء الاستعمار، اختلف أشياخ المحاظر في شان المستعمر اختلافا متباينا كعادتهم في الأمور النازلة فمنهم من وقف إلي جانبه  كحل لغياب الأمن و الاستقرار ومنهم من دعي إلي الجهاد و شحذ الهمم لطرده، لكن باختلاف أرائهم لا تجد أحدا منهم تعامل أو انقاد إلي المستعمر، فقد رفضوا كل أشكال التعاون بما في ذالك إرسال أبنائهم إلي الدراسة في المؤسسات التعليمية التي أحدثها المستعمر آنذاك.
2-المرحلة الثانية مع قيام الدولة وما صاحبها من إرهاصات، ظهرت الدولة في ثوب ابتعد كل البعد عن الرموز التقليدية من إمارات التي شكلت المقاومة العسكرية ومن مشايخ وعلماء  حيث يمكن اعتبار النخبة التي قادت البلاد في تلك الفترة هي الأقرب إلي المستعمر، شباب نهلوا من الثقافة الغربية دراسة و ممارسة حتى أن بعضهم حظي  بدخول الجامعات الغربية.  فبرغم من مطالبة أو مساهمة هذه النخبة  بالاستقلال إلا أنها لم تستطع الموازنة بين ما يجنح إليه المستعمر المانح للاستقلال في ظل قيام الدولة الحديثة و واقع البلاد المتمثل في وجود مؤسسة وحيدة آنذاك هي المحظرة.
. في هذه الفترة، رغم انعدام المؤسسات لم تال الدولة جهدا في البحث عن مكانتها الحقيقية المكانة المحظرية التي عرفت بها عبر قرون من الزمن ومراجعتها إن دعت الظروف إلي ذالك لتلاءم متطلبات الدولة الحديثة فعمدت كجاراتها لاستحداث مؤسسات تعليمية غربية، درست مناهج غربية وبلغة أعجمية، مبتعدة كل البعد عن البعد المحظري المألوف. لكن رغم هذا الابتعاد لم تجد الدولة بدا من الاتكاء علي الكيان المحظري لبناء الهيكل المؤسساتي للدولة  فا نكبت علي طلابها و  خريجيها  فاكتتبت العديد منهم أساتذة، معلمين، قضاة، أطرا في الوزارات و المؤسسات الاخري.
خلال هذه المرحلة واجهت الدولة عدة صعوبات و تعرضت رغم حداثتها لعدة نكبات، كان من بينها عدم الاعتراف بها من طرف جاراتها وبعض الدول العربية فكان للمحاظر كلمتها فحيكت القصائد متغنية  بالأصالة الشنقيطية العربية (2) ،   كما عمدت الدولة  إلي اللجوء إلي سفارتها المحظرية، فشكلت بعثة من العلماء بقيادة العلامة محمد سالم ولد عدود رحمه الله  لتجول في الدول العربية و الإسلامية كانت من بينها مصر و السعودية. كان لهذه الجولة أثرها البالغ في تاريخ موريتانيا، نتج عن إثره بوادر اعتراف أهم الدول المجاورة. أما اكبر نكبة تعرضت لها البلاد كانت اشد وطأة من السنين العجاف التي ضربت البلاد في تلك الفترة ، هي حصيلة المؤسسات التعليمية المستحدثة فقد تألب كافة التلاميذ تحت لواء موجة جامحة من الفكر الشيوعي مطالبين بمطالب شرعية لم تكن الدولة لها بالحسبان. يتساءل الكثيرون اليوم عن الطريقة التي تعامل بها النظام في تلك الفترة مع هؤلاء الشباب وما طبعها من قسوة كان لها الأثر البين في حياتهم، لكن أليس من الرئيسي أو المنطقي أن نتساءل عن سبب ركون الشباب إلي الفكر الغربي وما صاحب ذالك من الابتعاد عن المنظومة التقليدية التي عرفت بها البلاد علي امتداد القرون الماضية.
وقف العلماء و أئمة المحاظر بما يجدونه لزاما عليهم ضد هذا التيار الفكري الجارف فدعو الشباب إلي التمسك بأصالتهم، لكن الدولة اختارت أن تتعامل معهم بطريقة أحادية كلفتها الكثير.
  مع نهاية هذه المرحلة عرفت الدولة تطورا جديدا تمثل في ظهور كتلتين بارزتين أولاهما الكتلة العسكرية التي قامت علي أنقاض حرب الصحراء ممثلة في مجموعة من الضباط والذين قادوا البلاد فيما بعد، لتتوالي مجالسهم حيث كان اغلبهم  درس و تدرب في مدارس عسكرية غربية و كتلة سياسية تمثلت في حركات فكرية مستمدة من الشرق كل منها تقوم علي أنقاض سابقتها.
رغم اختلاف وتباين الكتلتين إلا أنهما ظلتا معترفتين بمرجعيتهما المحظرية التي شهدت تراجعا ملحوظا صاحبه نزوح السكان إلي المدن و البحث عن الوظيفة.                   
3-المرحلة الثالثة  مع قيام مؤسسات الدولة في  الثمانينات  علي ضعفها وقلة وسائلها، عمدت الدولة عبر إدارة التوجيه الإسلامي إلي إحصاء المحاظر (3) فأرسلت بعثات إلي كافة الولايات. هنا قد يتساءل البعض عن الدواعي أو الخلفيات من وراء ذالك، أحقا أن الدولة اكتشفت أخيرا أنها غيبت رمزها و تاريخها الأصيل وان آن  الأوان للتعرف عليه ودمجه في مؤسسات الدولة أم تلك كانت حيلة أو مطية انتهجتها الدولة لبسط و تسهيل برنامجها محو الأمية  الذي تم الاعتماد عليه كبرنامجي سياسي في تلك الفترة.
بعد هذا لإحصاء لم تجد الدولة ما تقدمه لدفع عجلة المحاظر إلي مكانتها فعمدت إلي إدارة التوجيه الإسلامي الهيئة المسئولة وأضفت إليها جملة من  الأسماء المتغيرة من وزارة العدل و التوجيه الإسلامي إلي وزارة الثقافة مرورا بكتابة الدولة لمحو لامية و التعليم الأصلي ...لكن الدولة تناست أن العالم لا يعرف السكون.
في تلك الفترة شهد العالم صحوة إسلامية بعد كل الحركات الاديولوجية السابقة، تمخضت عنها عدة حركات أو تيارات فكرية ذات خلفية إسلامية لكل منها عقيدتها ونظرتها في التعامل مع الدولة.      .
في ظل استغناء الدولة عن الفضاء المحظري  الذي ظل صرحا منيعا وحد كلمة الشعب خلال القرون الفائتة(عقيدة و فقها و سلوكا...) لم  تكن الدولة ولا المحاظر بمنئي عن هذا التحول الجديد فشهدت المحاظر إقبالا متزايدا من الطلبة الأجانب خاصة من الدول المجاورة وانتشرت الحركات  في المدن و الأرياف و تعددت المساجد حاملة شعار الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، متسلحين بظاهر القرءان و السنة، لكن سرعان ما دب الخلاف وكثر اللغط في المساجد وبقيت الدولة جامدة ترقب الحال عن كثب.
شهدت هذه الفترة منذ بدايتها تطورا سريعا فبرغم تصدي بعض الأئمة للظواهر الدخيلة ،عرفت المحاظر في جلها تنوعا ابتعد عن المألوف فلم تعد الكتب التي درسها الآباء و الأجداد صالحة اليوم فهذه إضاءة الدجنة استبدلت بعقيدة السلف أو الواسطية أو الوهابية. تغير الوضع كثيرا فبعد أن كانت المنابر متروكة لأهلها، كثر الخطباء وأصبحت المنابر لكل من هب و دب ولم يسلم العلماء و لا الأولياء و لا الصوفية و لا الأموات من التجريح و التعريض و التنقيص فهذا يصف العلماء بالميل و الرضوخ إلي السلطان وهذا يصف كتبهم بأنها صفراء وهذا يتهجم علي الأولياء أحياءا و أمواتا بأنهم مضلين وبأنهم رسخوا ثقافة توسلية لا تمت للدين بصلة، حتى الصوفية الإجلاء الذين بذلوا الغالي و النفيس للذب عن الإسلام و المسلمين و ساهموا في نشر الإسلام لم يسلموا  من التعريض أيضا فوصفت أورادهم بمخالفتها للسنة فبعد أن كانت الأوراد مسألة اختيارية استبدلت بورد إجباري بعد كل صلاة من رياض الصالحين و أحييت الخلافات القديمة فهذا ينكر التوسل و هذا يستنكر الاحتفال بعيد المولود  حتى اختلط الحابل ب النابل ولم تعد ارض شنقيط كما كانت 
                                    فلا الأذان أذان في منارته   إذا تعالي و لا الآذان آذان.
في مرحلة من تطور هذه الحركات وجدت الدولة نفسها أمام خلايا جهادية مهددة الأمن و الاستقرار فصار حتما عليها أن تتدخل لكبح جماح هذه الحركات و التي تتفاوت في طرحها وسطا و تشددا لقيام الدولة الإسلامية. اعترفت الدولة بحق إحداهن في ممارسة النشاطات السياسية للبلد كما حاولت الحد من تقصيرها في المساجد فاكتتبت العديد من أئمتهم، لكن يبقي هذا المجهود ضعيفا موازاة مع حجم هذه الحركات و انتشارها.
 أخيرا اعترفت الدولة بتفريطها أو تقصيرها في حق المحاظر و العلماء خلال كل العقود الماضية، فجاءت تمشي علي استحياء لعلها ترد  بعض الجميل فا نشأت قناة المحظرة لتسقينا من ذالك الحوض الزلال و المجلس الإسلامي الاعلي. لكن أما آن الأوان أن نرجع إلي محاظرنا إلي تاريخنا اسألوا العلامة عبد الله ولد بي و العلامة محمد الحسن ولد ددو. 
      -----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
  1  -  تستحق هذه المرحلة أن تكون قبلة للباحثين ليسطروا لنا أعلامها  و أدبها وعاداتها.
2  - حبذا لو كانت هناك دراسات للأدب في الستينات، خاصة ما قيل من الشعر في تلك الفترة. 
3 – لم تكتف الدولة بإحصاء واحد فقد تعددت بحسب الأنظمة حتى 2010. حبذا لو كانت هناك دراسة لهذه الإحصاءات و ما تلاها من قرارات.

محمد احمدو