عندما لا يعثر الإعلام المرئي على مساحات العمل و الإبداع

اثنين, 02/01/2016 - 02:49
الولي ولد سيدي هيبه

عندما لا تتيح سواعد و فكر أهل البلد في ميدان العمل التنموي مساحة من الانجازات البناءة و تقدم ملمحا من الحراك الذي يواكب متطلبات البناء و المواءمةبين نتاجات التعليم العالي و الفني وسوق العمل و رفع قواعد الكيان، و حينما لا يجد هذا الإعلام بالمقابل في الميدان الثقافي أيضا ما يقدمه مادة ضرورية للحفاظ على ميراث الماضي من خلال نفس حاضر واعي يأخذ بكل أسباب الحداثة لولوج المستقبل ضمن دائرة الأمم الواعية، فإن أداء هذا الإعلام سيبقى نشازا و لن يستطيع لعب أي دور إيجابي. كما أنه سيظل يسلك فجاج السفسطية و العبثية و التكلف من باب "حتى أظل موجودا".

و إن جولة سريعة بين القنوات التلفزيونية لدول الجوار دون سواها تنبئ بشكل جلي عن مدى حيوية إعلامها و مجاراة برامجه نبض المرحلة و سخونة و تطور محاورها و مواضيعها؛ برامج تضع المشاهد بعد حين أمام شكل و درجة تسارع نبض الحراك الثقافي فيها و مستوى التقدم العلمي المرتبط لدى طبقاتها الحية بدرجة المسار التنموي فيها التحاقا حثيثا بما حولها.

فعلى الصعيد الثقافي لا تخطئ العين مفرزات العطاء البكر في حقل التأليف من خلال الكتب التي تشغل حيزا ثابتا في برامجها و اهتماماتها البحثية و حلقاتها النقاشية ذات الصبغة الإعلامية بشقيها العلمي حول الابتكارات و الاختراعات و بناء الاقتصاد الذاتي بالكفاءات البشرية من ناحية، و الأدبي الفني حول حيوية مظاهر الثقافة الخلاقة بارزة في عروض المسرح الحية و السينما الواعية و ظهورا في عديد الفنون الأخرى من خلال المعارض التشكيلية و المنحوتات و التصوير و مجالات الإبداع الأخرى المتنوعة التي تلامس كلها جوانب الثقافة في أبرز تجلياتها الحديثة من ناحية أخرى و داخل الفضاءات المكشوفة المعدة لذلك و المغطاة المبنية في كل الأرجاء تزين المدن و تشكل مساحات استجمام بدني و متنفسات ذهنية تحفز على المشاركة الإبداعية و العطاء البناء.

و هو  الحراك الثقافي بجميع هذه الأوجه الذي يلعب أعظم الأدوار في فرز المواهب و إخراجها من غياهب جب التعسف الفكري لصقل الطباع و تهذيب الممارسات و دحض كل أنماط التفكير المحدود من غشاوة الماضي و فترات ما قبل الحداثة و تنقية الحاضر منها و قد كانت و حتى عهد قريب عائقا أمام التحولات الإيجابية المشهودة التي بدأت تتلاحق و تغير وجه هذه البلدان. فمن خلال حيويته حراكا متحررا بدأت شعوب هذه البلدان تقف بثبات على أرجلها و تطلق العنان لمحرك بنائها على أسس العمل و الأخذ باشتراطات المدنية من نظام و انضباط و توسيع دائرة التحضر عموديا في البناء المادي الذي يزيد دائرة الأمن و الأمان، و أفقيا في رفع مستوى الوعي و الفكر و سمو النفس بسلاح المعرفة و السمو السياسي التي تفرضه بالضرورة و بالنتيجة معا عوامل التحضر في دائرة الديمقراطية التي تصبح حينها اختيار الجميع و إملاء الواقع.

و أما التقدم الملموس، الذي تشهده هذه البلدان في تطوير بنياتها التحتية و تحسين أدائها لانسياب الحركة التنموية الاقتصادية التي تجاريها، فبفعل وعي المواطنين الذي حصل على أيدي النخب المتعلمة المجردة من عقد الاستعلائية و قد خرجت من تقوقعها داخل البروج العاجية الوهمية بضرورة نبذ الكسل و إلحاحية ولوج سوق العمل على مستوى القاعدة لرفع تحدي البناء من أسفله، فلا يكاد يرى فضاء إلا و به خلية نحل من العمال تعالج كل جزئيات الأداء الميداني و تفسح المجال لتأويلات متطلبات سياقية و تنبيهية جديدة للحكومات و جهاتها المكلفة التخطيط و الأعمار و خلق فرص قياسات سياسية مبتكرة و تحفيزات نيرة إلى قيامها.

صحيح أن المشوار طويل و أن العقبات ما زالت بعدد غياب آليات التمكين في هذه البلدان، لكن صحيح أنها لم تعد كما كانت من عقود قليلة خلت. فقد خفت حدة صراع الأجيال و اصطف الشباب بحيويته و تمكنه من وسائل العصر الحديثة  و تقلصت الفجوة فخالطت التجربة و الحكمة الحيوية و الجدارة و نشأت لغة تفاهم جديدة تقدر الجهد و العطاء و ترفض الهيمنة بأي منطق أو عرف كان.

و لما أن حال هذه البلدان يتغير باضطراد و يؤسس في كل يوم تبزغ شمسه من وراء حجاب الليل، بل و يدفع إلى إتباع منعطف جديد من البناء و التحول، فإن مواطني هذا البلد ما يزالون يغطون في سبات عميق و كل هواجس التخلف تكبح إرادتهم الفاترة بقوتها الموغلة في الماضوية و تحجب بمؤثراتها التنويمية رؤيتهم لتظل تؤخر بناء الأسس و تمنح البلد للتأخر الميداني الكابح و التخلف المفاهيمي المؤرق. فلا مفهوم الدولة مستساغا و لا العمل لتغيير أرض الواقع بما تمليه ضرورة قيام قواعد الدولة الحديثة مدركا و لا الوعي بمخاطر هذا الواقع الماثل يؤرق أو يحفز على اتخاذ أي إجراء وقائي؛ حالة من الرجعية الذهنية تنشر ظلالها على الذهنية العامة فتقي الخفافيش ضوء الحقيقة الذي يحوي فناءها، و تحجب البلد و مقدراته عن إرادة البناء لتعيث فيه نفس الخفافيش فسادا و تقيض كل إمكانية الخروج إلى دائرة التكيف مع اشتراطات العولمة المقننة في زحفها. فإلى متى لا يتولد وعي مدرك و ثائر على القوالب الجامدة و بعيد عن "العُنْفَين" السياسي الماكر و الفوضوي السافر؟