روسيا وتركيا.. استنفار الذاكرة مع منعطفات التاريخ

أحد, 11/29/2015 - 12:17
* د. محمد بدي ابنو مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل

“أجمل الأنهار لم نرها بعد … أجمل الكتب لم نقرأها بعد … أجمل أيام حياتنا لم تأتٍ بعد” ناظم حكمتْ"

 

                                                         ـ1ـ

 

يمكن أن يقال بمعنى ما عن الإمبراطوريتين العثمانية والروسية إنهما وريثتا الإمبراطورية البيزنطية. وبينما تمثلُ الإمبراطورية العثمانية الوريث الترابي والديموغرافي فإنها تمثل وريث القطيعة، وريث التحول الحدّي الذي يرمز اليه استبدال اسم القسطنطينية بإسطنبول. بينما تمثل الإمبراطورية الروسية وريثَ الاستمرار والشرعية في نظر أوساطها الأرثودكسية (على الأقل قبل نقْلِ القيصر بطرس الأول عاصمته من موسكو إلى سين بترسبورغ). وهو ما تختصره تسمية موسكو بروما الثالثة (والقسطنطينية روما الثانية). فسردية “انتقال” الإرث البيزنطي الأرثودكسي من القسطنطينية إلى موسكو (عبر كييف وفلايمير إلخ) انتشرتْ على ما يبدو خصوصا في أوج الصراع الروسي العثماني عبر إعادة استثمار عددٍ من العناصر التاريخية التي اعتُبرتْ مؤسسةً (كزواج إيفان الثالث في الكريملين بالأميرة سوفيا باليولوغس بنت آخر امبراطور بيزنطي تسع عشرة سنة بعد الفتح العثماني للقسطنطينية). وهي إعادة استثمار قد لا تكون لاحقا أجنبية تماما على السردية الموازية المتعلقة بانتقال الخلافة إلى إسطنبول.

 

                                            ـ2ـ

 

بعد أكثر من أربعة قرون من الحروب، اصطداما واقترابا، انهارت امبراطوريتا روسيا القيصرية وتركيا العثمانية في الحرب العالمية الأولى ونشأتْ من حطامهما روسيا البلشفية وتركيا الكمالية. ثمّ ورثتْ البلشفية بشكل مباشر أو غير مباشر أغلب المناطق التي كانت مسرحَ الصراعات التاريخية بين الامبراطوريتين بما فيها تلك التي يُنظر إليها في تركيا باعتبارها مناطق الجذور في آسيا الوسطى والقوقاز. وكادت روسيا أن تحصل عبر الاتحاد السوفيتي وحلفائه على ما فشلتْ في الحصول عليه عبر كل الحروب التي خاضها قياصرتُها ضدّ الإمبراطورية العثمانية والتي ساهمتْ بالتأكيد في إيصال الأخيرة إلى الحالة التي أطلق عليها الأوربيون في القرن التاسع عشر تسمية “الرجل المريض”. في جميع الأحوال فإن السلسلة الطويلة من المعارك العثمانية الروسية لعبت الدور الأبرز في إضعاف وتقهقر الإمبراطورية العثمانية حتى قبْلَ ظهور دوّل أوربا الغربية الحديثة التي لم تكن متحمسة إلا جزئيا للقضاء على الامبراطورية العثمانية مع أنها استثمرتْ ضعفها وسرّعتْ موضوعيا تفككها.

 

                                                     ـ3ـ

 

منذ التسعينات من القرن الماضي أخذتْ ذاكرة هذا المسار الطويل تطفو جزئيا على سطح العلاقات الدولية دون أن تكون قد اختفتْ تماما خلال الحرب الباردة. أصبح حينها من المحتمل أن التاريخ سيأخْذ وجهة جديدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي من جهة ومع تراجع المدّ الكمالي في تركيا من جهة ثانية. خصوصا أصبح حينها من البديهي أن استقلال جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز مرورا بإشكاليات البلقان وأوربا الجنوبية لاسيما مع تفككّ يوغسلافيا وحرب البوسنة ستشكلُ مسرحا رمزيا لإعادة استنفار الذاكرة المشتركة.

 

                                                        ـ4ـ

 

ولكن استنفار هذه الذاكرة أخذ أبعادا أكثر ثخونة مع روسيا بوتين وتركيا أردوغان لأسباب متعددة متضافرة.  ففي الأفق الجيوستراتيجي تمثل بداهةً تركيا قطب تأثير مزدوج في العالم العربي وفي المناطق الناطقة باللغات التركية. من جهة “روسيا هي إحدى أبرز العقبات أمام طموحات تركيا في امتلاك تأثير في الشرق الأوسط (آيسي زراكول، تركيا، روسيا و الربيع العربي جامعة جورج واشنطن، 2012 ). و من جهة ثانية تصدم تركيا و روسيا كثيرا في المناطق الناطقة باللغات التركية أو المتداخلة معها. فالأخيرة كـ”إرث سوفيتي” تمثلُ بالنسبة لروسيا منطقة نفوذ حيوي مباشر بينما تمثّـلُ في نفس الوقت بالنسبة لتركيا منطقة بالغة الحساسية لأسباب رمزية تاريخية معروفة ولأسباب ثقافية و اجتماعية ملموسة و لكن أيضا لأسباب اقتصادية راهنة لاسيما في القوقاز وحوض القزويني. و تَعتبر بشكل خاص تركيا أن روسيا قد عرقلتْ محاولتها للتطبيع مع أرمينيا و أنها استغلتَ هذه المحاولة في إبعاد أذربيجان عن المجال التركي. كما أن تركيا اصطدمتْ بتدخّل روسيا في جورجيا في صيف 2008. فالأخيرة حليف استراتيجي لتركيا في عدد من المشاريع الطاقية كما أنها تمثل سوقا مفتوحة للمنتوجات التركية.

 

                                                         ـ5ـ

 

ولكن مصالح تركيا في روسيا تجعلها كما هو معروف مضطرة لكثير من التنازلات. فنصف الغاز الطبيعي المستورد إلى تركيا هو غاز روسي وكذلك نسبة كبيرة من البترول (شكلتْ الأزمة السورية مثلا عنصر عرقلة لمشاريع تركيا في الحصول على مصادر طاقية بديلة). كما أن روسيا تمثل أحد أهم الفاعلين في مشاريع الطاقة النووية في تركيا وأحد أهم الأسواق بالنسبة للمنتجات التركية. وقد حاولت تركيا تفادي العقبات الروسية عبر محاولة خلق فضاء تكاملي للتعاون بين روسيا وتركيا وجورجيا وأذربيجان وأرمينيا سمّـتْه “منتدى القوقاز للتعاون والاستقرار”. وفضلا عن أن هذا المنتدى لم يرَ النور فإن إحدى نتائجه كان تعقيد علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين.

 

                                                                     ـ6ـ

 

ما الذي يعنيه هذا المسار الآن في واقعه التاريخي وفي استنفاره السردي ؟ لذاكرة الصراع الثنائي في أي مكان عدة استعادت ممكنة وبالتالي عدة قراءت يمكن توزيعها إجرائيا إلى اثنتين. إحداهما هوياتية ثبوتية. تُجوْهر الصراع وتؤبّده. تجعل ماضيه مبررا لمواصلته بين كيانين محكوم عليهما أزيليا بالمواجهة. أما الثانية فحركية تاريخية. تنظر إلى الصراع الطويل في الماضي كإرث يمكن أن يؤسس لذاكرة مشتركة وأحيانا جامعة في الحاضر أو تُستنفر قصْديا لتكون جامعة. أين تمكن موقعة روسيا بوتين وتركيا أردغان بين القرائتين خصوصا فيما يتعلق باصطدام الطرفين في سوريا ؟ لنعد إلى ذلك في حديث لاحق.