“الدولة الاسلامية” تغير استراتيجيتها وتنتقل من الدفاع الى الهجوم وتنقل الحرب الى اوروبا

ثلاثاء, 11/17/2015 - 20:19

... هل بدأت في تطبيق نظرية “التوحش”؟ وهل “غزوة باريس″ بداية العاصفة فعلا؟ ولماذا يسود الرعب امريكا واوروبا؟ وما هي المحطة القادمة؟ وهل تسرعت فرنسا بقصف الرقة؟

عبد الباري عطوان

من يعيش في اوروبا هذه الايام، يلمس بشكل واضح ان هذه القارة “العجوز″ تعيش حالة من الرعب غير مسبوقة، تسود اوساط الحكومات والشعوب على حد سواء، مثلما تسود ايضا معظم الجاليات العربية والاسلامية التي يزيد تعداد افرادها عن عشرة ملايين نسمة، والسبب يتلخص في كلمتين “غزوة باريس″.

الخطأ الاكبر الذي ارتكبه القادة الغربيون هو سوء تقدير قوة “الدولة الاسلامية”، والحاضنات السورية والعراقية التي توفر لها “الشرعية” و”الحماية”، وتمدها بكل اسباب “التمكن” والتمدد في الوقت نفسه.

التدخل العسكري الغربي في العراق هو الذي وضع بذرتها الاصلب، ودعم الحلفاء العرب الاعمى بالسلاح والمليارات لكل من هب ودب في سوريا لاشفاء غليلهم، وتنفيس احقادهم باطاحة نظام الرئيس بشار الاسد طوال السنوات الخمس الماضية، علاوة على سياسات الاقصاء والتهميش الطائفي، كلها عوامل، مجتمعة او متفرقة، اوصلت هذه “الدولة” الى ما وصلت اليه من جبروت وبأس وارهاب.

بيان “الدولة الاسلامية” الذي تبنى المسؤولية عن الوقوف وراء تفجيرات باريس قال بكل جرأة ووضوح، “انها بداية العاصفة”، فساد “الوجوم” وجوه قادة الدول العشرين، الاقوى اقتصاديا في العالم، اثناء اجتماعهم الاحد في مدينة انطاليا السياحية التركية، فغاب الاقتصاد، وحلت القضايا الامنية، وكيفية التعامل مع هذا “المارد” الجديد الذي خرج من “القمقم”، واحتوائه، او القضاء عليه.

***

جون برينان مدير وكالة الاستخبارات الامريكية اخذ بيان “الدولة” هذا بالجدية كلها، عندما قال، والذعر مرسوما على وجهه “ان تنظيم “الدولة الاسلامية” يحضّر على الارجح لعمليات اخرى”، واضاف في كلمة له في مركز ابحاث واشنطن “اعتقد انها ليست العملية الوحيدة التي خطط لها التنظيم”، في اشارة الى هجمات باريس.

حالة الرعب نفسها وصلت الى بريطانيا، حيث اعلن ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني انه زاد ميزانية الاجهزة الامنية لمساعدتها على مكافحة تهديد “الدولة الاسلامية”، وبما يسمح بتوظيف 1900 عنصرا اضافيا على الاقل.

اذا تمعّنا جيدا في ادبيات “الدولة الاسلامية” وبياناتها ونصوص ومقالات مجلة “دابق” المصقولة التي تصدرها شهريا تقريبا، نجد ان هذا الرعب وتداعياته هو ما تريده، وما خططت له، وبما يؤدي الى الحاق الضرر بأكثر من عشرة ملايين مسلم لزعزعة ثقتهم، وتخريب علاقتهم مع وطنهم الجديد، ودفع الدول الغربية الى ارسال قوات ارضية لمحاربتها في سورية والعراق بعد فشل اكثر من 8000 طلعة جوية منذ عام تقريبا.

“غزوة باريس″ هي احد التطبيقات الابرز لكتاب “ادارة التوحش” الذي وضعه ابو بكر الناجي (اسم مستعار)، ابرز مفكري الحركات “الجهادية” الاسلامية، واصدره عام 2003، وتحول الى “خريطة طريق” بالنسبة اليها.

الكتاب في اكثر من سبعين صفحة، لكن ابرز نظرياته تطالب باستغلال حالة الارتخاء الامني، وضرب العدو في خاصرته الضعيفة، وبث الرعب، وتدمير اقتصاده، وضرب منتجعاته السياحية، وخلق حالة من الفوضى، الامر الذي يحدث فراغا تملؤه هذه الحركات، ولعل اسقاط الطائرة الروسية وقتل جميع ركابها، وتخريب السياحة المصرية، احد التطبيقات الاخرى.

تنظيم “الدولة” الذي يجد نفسه في حرب في مواجهة اكثر من مئة دولة، بينها ثلاث قوى عظمى (امريكا وروسيا والصين)، واخرى اقل عظمة (مثل فرنسا وبريطانيا والمانيا)، وثالثة اقليمية شبه عظمى (مثل السعودية وايران) قرر ان يغير استراتيجيته، وان يتبنى نهج تنظيم “القاعدة” في مهاجمة اهداف غربية في عواصم اوروبية، بعد ان حقق انجازه الاول، اي “التمكن والتمدد” في محيطه الجغرافي.

بمعنى آخر، وفي ظل عجزه عن التصدي للغارات الجوية للتحالف الستيني، لعدم توفر الصواريخ والدفاعات اللازمة، قرر الانتقال من مرحلة الدفاع الى الهجوم، والضرب في العمق الغربي الاوروبي، وربما تكون “غزوة باريس″ هي “بداية العاصفة” مثلما قال البيان.

وهذه قفزة استراتيجية نوعية تشكل تهديدا جديا وخطيرا للدول الغربية، وربما العربية ايضا، فالتنظيم شعر بالندم فيما يبدو بانخراطه في “حرب مدن” في الاشهر الاخيرة، وتكبد خسائر بشرية كبيرة (عين العرب ـ كوباني وسنجار)، وبدأ يميل اكثر الى حرب الكر والفر (العصابات).

الفيديو الجديد الذي اصدره التنظيم الاثنين سلط الاضواء بقوة على هذه النقلة الاستراتيجية النوعية، عندما قال “نجدد الدعوة للموحدين في اوروبا والغرب الكافر وفي كل مكان باستهداف الصليبيين في عقر دارهم واينما وجدوا”، وقال احد المقاتلين في الفيديو نفسه موجها كلامه الى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند “قسما سنذيقك من كؤوس الموت الوانا.. فانتم من بدأ.. اننا قادمون الى اوروبا بالمفخخات والتفجيرات ولن تستطيعوا ردنا لاننا اصبحنا افضل من ذي قبل.. ولتعلمي يا فرنسا اننا لم ننس جرائمك”.

هذا التطور الاستراتيجي الارهابي المرعب لا يجب التقليل من شأنه، لان الاختراق الامني الخطير الذي حققته اجهزة “الدولة الاسلامية” في تجنيد شبان من الجيل الثالث من المهاجرين في فرنسا وبلجيكا، ولا يعرفون بلدان آبائهم واجدادهم الا على الخريطة، ومن المجلات السياحية في معظم الاحيان، يكشف عن عقلية جبارة، وخطط مدروسة، وقدرة تنظيمية عالية، فان يهاجم ثمانية اشخاص اهدافا منتقاه بعناية بالاحزمة الناسفة والبنادق فهذا يعكس قدرات “دولة” وليس “ذئبا فرديا”، او شخصا يائسا، مثلما كان عليه الحال في هجمات سابقة.

القصف الجوي الفرنسي السريع الذي جاء ردا على هجمات باريس يمكن فهمه، ولكنه مجرد محاولة لامتصاص حالة غضب شعبي، وانتقام فوري، وربما يعطي نتائج عكسية، لان الانفعال والتسرع ليس هو الحل، وربما يفيد التذكير برد فعل الرئيس الامريكي جورج بوش الابن في غزو افغانستان بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر الارهابية، واحتلال العراق بعدها بعامين، والباقي متروك لفهمكم ولا داعي للتكرار.

                            ***

الامر يتطلب استراتيجية متكاملة بعيدة المدى، عنوانها الاول ايجاد حلول سياسية لكل قضايا المنطقة، وليس السورية فقط، ومراجعة كاملة لكل السياسات الغربية والعربية الغبية (الغبية عائدة الى العربية) التي اوصلتنا الى هذا الوضع الدموي المتفجر، فالحلول الامنية والعسكرية وحدها فشلت في حل المشاكل التي جاءت من اجلها، وفرّخت مشاكل اخرى اكثر خطورة.

اكثر من ثلاثة اعوام والغرب واتباعه العرب يتجادلون على الطريقة البيزنطية، ايهما اولا الاسد ام “الدولة الاسلامية”، فبقي الاسد وتعزز، وبقيت “الدولة” وتمددت، حتى وصلت بمتفجراتها واحزمتها الناسفة الى باريس، ويعلم الله اين ستكون المحطة الدموية الارهابية المقبلة.