الحراطين، الأرقاء الموريتانيون السابقون: ماضي مأساوي، حاضر بائس، ومستقبل ضبابي
السبت, 28 فبراير 2015 17:14

altaltإن الوزن الديموغرافي للحراطين يمنحهم قيمة هائلة في إطار الرهانات الانتخابية ويضع قضيتهم في قلب أي نقاش يثير اهتمام الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين.

وعلى الرغم من أن القوانين المعمول بها قد ألغت وجرمت الاسترقاق الذي هو مأساة الحراطين، والذي لا يزال يثقل كاهل ضحاياه، ولا يزال يسيل الكثير من الحبر، والكثير من الجدل، وحسبنا أن لا يهدر بسببه الكثير من الوقت و... الدم!

لقد خضع الحراطين قرونا للعبودية بكل ما في الكلمة من معاني الظلم والتدجين المبررين اعتباطا بالدين.

لكن الحراطين، وبعد أن أصبحوا يتمتعون بما يكفي من الوعي والوزن العددي والدعم الفعلي من لدن مختلف قوى التقدم، أصبحوا أيضا يدركون أن لهم حقوقا ينبغي أن ينالوها، ودورا ينبغي أن يلعبوه داخل المجتمع، ومكانة كبرى ينبغي أن يتبوؤها بين باقي مكونات ساكنة هذا البلد.

لقد ولى الماضي إلى غير رجعة، وإنه لمن غير المفيد نكء الجراح القديمة، غير أنه من الوارد التنبيه إلى أن من كانوا بالأمس عبيدا، وأصبحوا اليوم حراطينا، لم يصلوا بعد إلى درجة تجعلهم مواطنين يتمتعون بكامل حرياتهم.

لا يزالون غاية في التعاسة وضعف الحيلة، فكواهلهم لا تزال مثقلة برواسب خلفتها قرون عديدة من القهر والجهل والفقر.

لقد آن الأوان أن يفكر أصحاب القرار في هؤلاء المواطنين الذين طالما عانوا من بشاعة الازدراء الظالم.

لا أريد هنا، أبدا، أن أنكر ما تحقق من تقدم بخصوص قضية الحراطين، بل إنني أعتقد بصدق أن خطوات قد تم قطعها ـ وإن كانت بطيئة بالفعل ـ لكن، ومن باب الأمانة، يجب علينا الاعتراف بأنها إيجابية، ومن تجليات ذلك أنه لم يعد اليوم بوسع أي موريتاني أن يدافع عن الاسترقاق أو أن يشكك في عدالة الإجراءات التي يتم اتخاذها هنا وهناك للقضاء على مخلفاته، بل وعلى العكس من ذلك، يمكن الجزم بأن كافة المثقفين والسياسيين، سواء كانوا في الموالاة أو المعارضة، مجمعون على إدانة هذه الحماقة الكبرى، أكبر حماقة يرتكبها الإنسان في حق أخيه الإنسان، ألا وهي الاسترقاق.

وفضلا عن ذلك، يمكن القول بأن الموريتانيين كلهم مجمعون على ضرورة القضاء النهائي على هذه الظاهرة المشينة.

ويمكنني الجزم أيضا بأن ما تم إنجازه من تقدم في هذا المجال، لم يكن بفعل الحراطين أو ثمرة نضالهم لوحدهم، وإنما تم ذلك كله بفضل جهود الموريتانيين، كل الموريتانيين. فقد ساهموا كلهم، كل من جهته، وكل واحد منهم تحمل ما بوسعه بغية إيجاد حل لقضية الحراطين.

إنها قضية ليست بالسهولة التي يتصورها البعض، فهي معقدة ومتعددة الأبعاد، وهي إحدى القضايا الوطنية الكبرى التي يجب أن تحظى بمعالجة تتوخى أكبر قدر من الحيطة والحكمة لأن ارتكاب أبسط الأخطاء قد يكون خطير العواقب في حال ما إذا عهد بمعالجتها لغير الدولة.

ينبغي أن نذكر بأن ما تبقى من العبودية وآثارها تمكن معالجته في الأساس عن طريق التطبيق الفعلي للقوانين التي تم سنها لهذا الغرض.

وفي هذا المنوال، يجب اتخاذ الإجراءات الضرورية للقضاء على مخلفات الاسترقاق، ويتعلق الأمر هنا ـ أكررها مرة أخرى ـ بمهمة لا يمكن إسنادها إلا للدولة، هذه الأداة الفريدة التي لا يمكن للأمم الاستغناء عنها.

ولبلوغ هذا الهدف النبيل، فإننا مطالبون بأن نصرف النظر عن الماضي ومآسيه، وأن نجعل المستقبل صوب أعيننا. فما الفائدة من التراشق بالاتهامات والتنابز بالألقاب وتكدير صفو سكينة الموريتانيين المسالمين، والتهديد المستمر لوحدتهم الوطنية الهشة أصلا ؟ لماذا هدر كل هذه الطاقات وكل هذا الوقت الثمين في اجترار خطابات تفوح بالكراهية والعنف في الوقت الذي نحن في أمس الحاجة إلى التهدئة والتشاور والعمل؟ لماذا هذه الحساسية المفرطة لدى بعض القوى الموالية للسلطة إزاء الحديث عن وجود حالة استرقاق هنا أو هناك؟ وما دافع بعض المجموعات أو الأفراد في الإساءة إلى بلدهم والتشهير به في الداخل والخارج على أنه هو البلد الوحيد في العالم الذي لا يزال يمارس فيه الاسترقاق؟ وما الفائدة من السعي إلى التفريق بين مكونتي مجتمع البيظان؟

وفي هذا الإطار أرى أنه من مصلحتنا جميعا أن نتحلى بالصبر والحكمة والبرجماتية، وأن نسعى إلى "بذل الوسع" بغية إيجاد حلول لمشاكلنا في إطار جو ملؤه الوحدة والإخلاص والوئام، بدلا من أن نتنازع في أمور لا تجدي.

لا يجوز أن نتلاعب بعقول الآخرين، فما من موريتاني حي يرزق يمكن أن نحمله مسؤولية ما لحق بهؤلاء الحراطين من أذى طيلة قرون عديدة من الاسترقاق.

إن خلاص الحراطين و غيرهم من المواطنين الموريتانيين يمر حتما باتخاذ الدولة مجموعة من الإجراءات الشجاعة و المناسبة من أجل التخفيف من معاناة هذه الشريحة الفقيرة و الهشة.

كما يجب علينا، حين نقرر القيام بعمل يصب في هذا الاتجاه، أن نعتبر أننا بصدد معالجة إرث إنساني لا يقل شأنا عن ذلك الذي استطاع الرئيس ولد عبد العزيز في الآونة الأخيرة معالجته في هدوء وطمأنينة، أعني هنا قضية المبعدين و ضحايا أحداث ابريل 1989.

وأشير هنا إلى أن المأساة التي تعرض لها ـ مع الأسف الشديد ـ الزنوج الموريتانيون سنة 1989 لا يمكن، رغم جورها وبشاعتها، أن تقارن بحال من الأحوال بما تعرض له الحراطين من ظلم، فما تعرض له الحراطين كان أعظم وأكثر إيلاما بدليل أن معاناة هؤلاء دامت عدة قرون وتمادت إلى درجة أنهم، من شدة ما تجرعوا من الظلم والمعاناة، تعودوا في معظم الحالات على المهانة حتى استمرؤوها، واستسلم الكثير منهم لذلك الواقع البائس، وقبلوا في نهاية المطاف بعبوديتهم.

ومن هنا، فإن ما عانوه وما يعانون من بعضه إلى حد الساعة هو بامتياز قضية إرث إنساني تستحق الاعتذار والجبر.

إن عملا كهذا يتطلب شحنة كبيرة من الشجاعة، ذلك بأن الأمر يتعلق برفع تحديات جسام، وأن المهمة ليست بالسهلة لكن الدفاع عن القضايا العادلة يتحدى المستحيل وإن غاية كهذه تستحق المجازفة.

واليوم، ولأسباب من السهل تصورها، يحتل الحراطين مكانة بارزة في الأحاديث اليومية للرسميين والسياسيين والمثقفين لكنهم ـ وللأسف الشديد ـ كثيرا ما يتم نسيانهم أو تناسيهم كلما تعلق الأمر بصياغة المشاريع التنموية أو الإجراءات السوسيوـ اقتصادية التي من شأنها أن تخفف من معاناتهم الضاربة في القدم، ولعل هذا أحد الأسباب التي دفعتني لكتابة هذه الأسطر المتواضعة.

ومن هذا المنوال، أرى من الضروري إثارة نقاش جاد وهادئ يتيح لجميع المثقفين فرصة صياغة مقترحات ملموسة ومفيدة للحراطين، ولبقية الموريتانيين، وانطلاقا من ذلك، سأحاول تقديم بعض المقترحات التي خطرت على بالي، والتي لا يبدو لي أنها عصية الإدراك ولا أنها تدخل في حيز المعجزات.

أرجو أن أوفق في أن تكون هذه المقترحات من الرصانة بمكان، بحيث تضمن للنقاش سقفا محترما من المسؤولية والوقار، وأن تشكل منطلقا مباركا للمشاركات والملاحظات المتوقع ورودها، وأن تؤسس لحملة مناصرة لترقية الحراطين.

وقبل أن أدخل في لب الموضوع، أريد أن أشير إلى أن الحراطين يعانون من التهميش والجهل والفقر.

وللتصدي لهذا الثالوث الرهيب، يجب على موريتانيا ـ الدولة ـ أن تقوم بتنفيذ جملة من الإجراءات العملية والموضوعية لغرض التخفيف من معاناة هذه الشريحة من المجتمع.

إن تعيين أطر من الحراطين في مناصب إدارية سامية هو في الحقيقة أمر هام، وهو حق مشروع لكل مواطن من مواطني هذا البلد حائز على المؤهلات المطلوبة، ويمكن أن يكون خطوة في اتخاذ المزيد من الإجراءات الايجابية لصالح الحراطين، غير أن أطر الحراطين ينبغي أن يعينوا في مراكز صنع القرار، وجدير بهم أن يستشاروا من قبل أصحاب القرار كلما تعلق الأمر بمشروع تنموي أو سياسي أو اجتماعي، ذلك لأنه ما من أحد أدرى من أهل مكة بشعابها.

من السهل أن يستفيد الحراطين من نفس الامتيازات التي خصت بها النساء مؤخرا في الانتخابات التشريعية و البلدية الأخيرة. ويمكن، من ناحية أخرى، منح امتيازات اقتصادية واجتماعية لهذه الشريحة تستهدف في المقام الأول قرى الحراطين (آدوابه) وأحزمة الفقر المحيطة بكافة كبريات المدن لأن هؤلاء الحراطين المساكين متواجدون في كل مكان، وفي هذا الصدد يمكن وضع برامج تنموية خاصة بالمناطق التي غالبية سكانها من الحراطين، كما يمكن لمنظمات المجتمع المدني، خاصة منها تلك الناشطة في مجالي التنمية وحقوق الإنسان، أن تخصص جزءا كبيرا من أنشطتها لفقراء الحراطين الذين هم في أمس الحاجة إلى كل شيء.

يمكن أيضا لهؤلاء الفقراء ـ و ليت الفقر كان مصيبتهم الوحيدة ـ أن يستفيدوا من امتيازات يخصون بها في مجال التعليم و التشغيل و التكوين و الدمج.

أي شيء أيسر من الرجوع إلى العمل بنظام الحضانات المدرسية والأقسام الداخلية في مؤسسات التعليم الابتدائي و الثانوي في الأماكن الأكثر فقرا؟ وأي شيء أيسر من تخصيص نسبة مئوية من المقاعد في ثانويات الامتياز والمدارس العسكرية و مراكز التكوين المهني لأبناء عائلات الحراطين التي لا يملك أولياء أمرها من الوسائل ما يسمح لهم بتسجيل أبنائهم في المدارس الحرة؟ وهذا التمييز ذاته يمكن أن يصل إلى حد فرض رسوم تفضيلية خاصة بتسجيل أبناء أسر الحراطين الفقيرة في المدارس الحرة.

لم تكن تجربة موريتانيا في مجال محو الأمية مشجعة البتة.

لقد باءت بالفشل كل السياسات التي اعتمدتها في هذا المجال مختلف الحكومات الموريتانية المتعاقبة، ذلك بأنها كانت كلها مرتجلة ولم تكن تأخذ في الحسبان خصوصيات الفئات المستهدفة.

إن تدخل قطاع التعليم الأصلي – على أهميته- لا يجدي لوحده، بل من الضروري أن تشاركه قطاعات أخرى كالتعليم و الأمن الغذائي و اللامركزية و الترقية النسوية و غيرها من المؤسسات الوطنية والدولية و هيئات المجتمع المدني. فلا بد من تضافر جهود كل هذه القطاعات لمواجهة داء الأمية الهدام.

ويمكن، اعتمادا على دراسات جادة، وضع خطة عمل تعطي مكانة هامة لحملات التحسيس والمناصرة التي تتيح لكل الفاعلين الوطنيين والدوليين المشاركة في هذه المهمة النبيلة.

وفي هذا الإطار أتمني قيام حركة وطنية للتطوع تشرف عليها مؤسسات الدولة، ويشارك فيها حملة الشهادات العاطلون والمدرسون والطلاب الجامعيون و تلاميذ المؤسسات الثانوية في فترات العطل الدراسية إلى جانب المعنيين المباشرين.

وبإمكان الدولة الموريتانية، التي تمتلك اليوم وسائل مالية هائلة، بدل إعطاء الأراضي الزراعية لرجال الأعمال الذين لا يمكنهم استغلالها إلا بواسطة استخدام يد عاملة معظمها من شريحة الحراطين، استصلاح هذه الأراضي أو بعضها وتوزيعها على المزارعين الحراطين المحتاجين بعد أن يتم تكوينهم على تقنيات الزراعة العصرية، وبعد تنظيمهم في شكل تعاونيات وجمعيات تضمن لهم التسيير الأمثل لثمرة عملهم.

بهذا تكون الدولة قد حققت هدفين أساسيين، أولهما إخراج الحراطين من دائرة البؤس، وثانيهما تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء.

إن إنشاء وكالة التضامن وتكليفها بملف الحراطين وجعلها إداريا تابعة لمؤسسة رئاسة الجمهورية أمر هام، وخطوة إلى الأمام يجب على الموريتانيين، والحراطين على وجه الخصوص الإشادة بها، كما تجب الإشادة كذلك بالإنجازات التي حققتها هذه الوكالة إلى حد الساعة، إلا أنني أتمنى على هذه المؤسسة الحكومية المحترمة أن يكون هدفها في نهاية المطاف، هو إزالة كل مظاهر التخلف عن المناطق التي تتدخل فيها.

فالموريتانيون يتوقون إلى أن يأتي الوقت (قريبا إن شاء الله) الذي تزول فيه كافة الفوارق الاجتماعية، ويكون فيه "مثلث الأمل" مثلث الخير.

امبارك ولد الصبار