خفايا الأزمة العمالية في اسنيم
الجمعة, 13 فبراير 2015 03:37

أحمد فال بن الشيباني أمين عام فدرالية المعادن CNTMبسم الله الرحمن الرحيم

لم يحدث في التاريخ القريب ـ على الأقل ـ  للإضرابات على مستوى شركة اسنيم أن حصلت نسبة استجابة كالتي سجلها الإضراب الحالي أزيد من 90% وتماسك لمدة أسبوعين مع مؤشرات إيجابية أخرى كدقة التنظيم وانضباط السلوك المدني السلمي.

بالمقابل لم يصاحب أي إضراب في ما مضى ما تم الآن من انتظام تسيير القطارات المعبأة من المنشآت في ازويرات إلى الميناء المعدني بانواذيبو مما يوهم أن الشركة لم تتأثر بالإضراب فأين الحقيقة في هذا المشهد المتناقض؟ وأي الواجهتين خدعة مموهة؟ وما الدوافع إلى مثل هذه المغالطة الكبيرة للرأي العام؟ وما هي انعكاسات ما يحصل على أرض الواقع على زهرة الاقتصاد الوطني لعقود خلت وفسطاط خيمتنا التي أظلتنا منذ فجر الاستقلال الوطني إلى اليوم؟

هذا ما أردت أن أتعرض لخفاياه وكوامنه من خلال إطلالات قد تتكرر حتى أبرز المشهد من جميع جهاته وأغوار عمقه وأبعاد زواياه بفعل تجربة زادت على أربعة عقود من الزمن حيث قدمت مدينة ازويرات سنة 1972 للتمدرس ولما أتجاوز في العمر ست سنين وانخرطت في مؤسسة اسنيم سنة 1990 كتقني سامي في الكيمياء الصناعية والتعدين حيث عملت في منشآتها الكبيرة وفي مصالح عدة منها وبمسؤوليات مختلفة ومارست في هذه المدينة العمل الدعوي والإصلاحي ثم السياسي والنقابي الذي لازلت أنشط فيه.

بعد انقلاب 2005 أصاب اسنيم نصيبها من أجواء الحريات التي جاءت بها رياح التغيير السياسي وغالبا ما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ففاق المارد العمالي من نومته العميقة أو على الأصح كسر قيود التكبيل وراح يسابق الزمن ليستدرك ما فاته منذ عقود خلت كانت سنين عجاف عليه حرمته كل شيء بل انتزعت ما تحت أضراسه (الاتفاق المؤسسي لسنة 2004 المشئوم الذي طال علاوات المادة 40 من الاتفاقية الجماعية).

انتخبت 2006 كمندوب نقابي مع آخرين وبعد مفاوضات شاقة وطويلة دامت سنة كاملة تم التوصل إلى الاتفاق المؤسسي التاريخي 31/12/2006 الذي استرجع ما انتزع من أيدي العمال جورا باتفاقيات في زمن القهر والإذلال كاتفاق الكوتا للاستهلاك الكهربائي سنة 1990 الذي حرم العمال مجانيته والاتفاق المذكور أعلاه لسنة 2004 الذي حرم غالبية العمال من مكاسب المادة 40 من الاتفاقية الجماعية فحقق اتفاق 2006 مكاسب كبيرة منها زيادة منحة الكهرباء المجانية ب 100 كيلو وات إضافية ورد امتيازات المادة 40 من الاتفاقية الجماعية وحسنها لأزيد من 1900 عامل مع مكاسب أخرى معتبرة.

واستمرت المطالبات والمفاوضات حول مجالات استراتيجية للعمال كالصحة والسكن والتقاعد وتحسين الأجور فحصل تقدم في بعض هذه المجالات كنظام التقاعد التكميلي والسكن والصحة إلا أن محدودية الزيادات التي حصلت للأجور وتدنيها في الأصل جعل منها مطلبا ثابتا في كل العرائض المطلبية وكان سببا لفقدان الشركة لكثير من أطرها وتقنييها الأكفاء حيث كانوا يغذون سوق العمل في العاصمة في المصانع والشركات الناشئة أو المبادرات الخاصة والتي تقدم أجورا منافسة وكان ذلك يصب في المصلحة العامة من حيث توفير الكفاءات الازمة لنجاح هذه المؤسسات الوطنية إلا أن مجيء الشركات الأجنبية وتوفيرها لأجور أكثر منافسة انتزع من الشركة كثيرا من تقنيي الصيانة وفنيي تشغيل المنشآت المنجمية ومن يريد البرهان على ذلك فاليزر، كما فعلت ،كنروس بتازياست أو أمسي أم بأكجوجت.وكنت قد نبهت على ذلك في الرؤية التي نشرتها CNTM إبان انتخابات مناديب العمال 2012 وكلمت فيه أكثر من مسئول في إدارة المصادر البشرية.

في مايو الماضي نادى العمال بمطالب كان على رأسها الزيادة العامة للأجور وتوقفوا يومين عن العمل تكللا باتفاق مؤسسي بين ممثلي العمال وإدارة الشركة تضمن مكاسب من أهمها التزام الأخيرة بزيادة عامة معتبرة للأجور تحسب ابتداء من أكتوبر المنصرم لكن الإدارة حسب ما راج من أخبار لم تطرح حتى موضوع الزيادة على مجلس الإدارة الذي انعقد في نهاية سبتمبر وانطلقت في حملة تثبيطية لأحلام الشغيلة مدعية أن تدني أسعار الحديد منعها من تطبيق الاتفاق ووعدت بالاستجابة عند فاتح يناير لكن يناير انصرم ولم تفي بالعهد ولم تلتزم بالاتفاق فدخل العمال مجددا في الاضراب الحالي مطالبين بالزيادة المتفق عليها سلفا وعلاوات الانتاج التي استحقوها بإنجاز أزيد من الأهداف المرسومة للسنة الماضية.

نجح الاضراب بنسبة عالية وبالمقابل انغلقت الشركة عن الحوار واستمر تسيير القطارات المعبأة بالحديد إلى انواذيبو في مفارقة مستعصية على الفهم من لدن الرأي العام من خارج الشركة مما استدعى هذا التنوير. إن الإدارة ارتكبت اخطاء مميتة وذات أثر كارثي على مستقبل الشركة فبدل الاستمرار في الحوار والمفاوضات الذي ترسخ كأسلوب لحل الخلافات مع العمال منذ عقد من الزمن سولت لها نفسها أن تجرب الأسلوب البائد الذي هو القمع والإذلال فتحداها العمال بهذا الإضراب المنظم والمتماسك فاستخدمت جميع وسائل الترغيب والإغراء ثم الترهيب بالفصل التعسفي وحرمان المضربين من التموين من المخزن والتداوي بالمركب الصحي التابع لها واستنجدت بالوجهاء والقبائل فلم تفلح في ثني عامل واحد عن الاضراب فارتكب خطئا آخر أكثر فداحة وضررا وهو التمادي في تشغيل المنشآت بدون مراقبة ولا صيانة وبمشغلين غير مؤهلين  مما يهدد بخسارتها إن تمادت في ذالك لفترة قصيرة وغرضها من ذلك سطحي وهو الضغط من جهة على المضربين ومغالطة الرأي العام بإيهامه أن الاضراب غير مؤثر في سير العمل وتسيير القطارات.

  فلا العمال ثناهم ذلك عن الاضراب والرأي العام بدأت تتكشف له الحقائق. هذه باختصار هي حكاية الخدعة التي تتباهى الإدارة بلعب بطولتها ولعلها لا تتقن غيرها فتأتي به.    إن حجم الغبن وانعدام العدل في سياسة ونظام الأجور لدى الشركة الذي لم يطرأ عليه أي تطوير منذ التأميم إلى اليوم يفاقم المشكلة ويعقدها.ويجعلها تتكرر كل مرة مما يستدعي تفكيرا ونظرا أكثر عمقا يفضي إلى حل للمشكلة من جذورها. إن الأجور تتكون من ثلاث مكونات أساسية: الأجر القاعدي والعلاوات المتضمنة في الاتفاقية الجماعية وعلاوات التحفيز التي تقررها الإدارة.

فالأجر القاعدي تنظمه وتحدد مجالاته – Grilles de salaires - مذكرة الإدارة العامة والتي حسب علمي لم يجري تحديثها منذ الستينات ويمكن زيادته عن طريق الزيادات العامة المقررة من الادارة العامة أو الزيادات الانتقائية التي تفوضها للمسئولين المباشرين وبما أن الأولى نادرة الحدوث والثانية ليست لها إجراءات ضابطة وإنما تأتي وفق مزاج المسئولين فقلما تأتي بسبب الكفاءة والاستحقاق مما فاقم الغبن وقلة العدل في الأجور فلا غرو أن تجد مسئولا يتقاضى راتبا أقل من تابعيه أو من يتساوون في الرتبة والعمل لكن الجديد يتقاضى أكثر ممن هم أقدم منه وهكذا كل الصور موجودة.

أما العلاوات المتضمنة في الاتفاقية الجماعية فلم تعد ملائمة لظروف العمل الراهنة ذالك أن الاتفاقية الجماعية تعود إلى السبعينات يوم كانت المنشآت صغيرة الجم قليلة المخاطر إذا ما قورنت بمنشآت اليوم ففي السبعينات مثلا لم يكن موجودا سوى منشآت تكسر المعدن بحجم 400 مم أما ألآن فمصنع الغين يفت المعدن ليصل إلى مقادير بحجم 1,6 مم نسبة الغبار فيها أعلى بكثير مما تسبب لكثير من العمال بالمرض القاتل السيليكوز فمنهم من مات ومنهم من يحتضر كذلك مستوى الاهتزازات والضجيج والإشعاعات زاد بنسب عالية في المنشآت مما يحتم مراجعة الاتفاقية الجماعية حتى تأخذ  بالحسبان هذه الظروف.

أما العلاوات التحفيزية كعلاوة الانتاج وعلاوة الخدمة المنجزة وعلاوة الاشباع (Gratification ) وغيرها فإجراءاتها غير ملائمة وفيها غبن فاحش فعلى سبيل المثال علاوة الاشباع تقسم بنسب تبعا للراتب فبما أن رواتب المديرين والأطر الكبار أكبر بكثير من رواتب الباقين فإنهم يذهبون ب 80% من الغلاف المالي المخصص للعلاوة خلافا لما هو متبع في العالم من توزيع مبلغ الاشباع بالتساوي على جميع العمال.

فعلى الشركة أن تفتح مفاوضات مباشرة للتوصل إلى حل للأزمة قبل أن تهلك المنشآت عن طريق تشغيلها بدون رقابة ولا صيانة ومن طرف فرق غير مؤهلة كرؤساء الفرق ورؤساء المصالح أحيانا ممن لم يسبق لهم أن تدربوا على تشغيلها أو بواسطة متقاعدين لم تعد لهم اللياقة الازمة لتشغيل مثل هذه المنشآت وهم مرضى بالسكري والضغط الشراييني وقد نزل بعضهم ضيفا على المشتشفى بسبب الاجهاد كما تذمر المسئولون من استمرار الأزمة.