الشيطان الوطني
الأحد, 14 ديسمبر 2014 11:58

  د.عقيل حسين عقيل اكاديمي - وزير ليبي سابق د.عقيل حسين عقيل اكاديمي - وزير ليبي سابقلا شكّ أنّ للعزل السياسي مخاوف مشتركة بين الدافعين له وبين المستهدفين به، ومع أنّها مخاوف مشتركة إلّا أنّ لكلّ أسراره وعلله ومبرراته، ومن هنا بدأ الشيطان الوطني يلعب لعبته تحت عنوان (أنا أو أنت، ونحن أو هم).

وأوّل مهمّة قام بها الشيطان الوطني جمع شمل المستهدفين بالعزل السياسي بلا عدالة وجمع أهاليهم، وقبائلهم، والمتحالفين معهم، وهمس لهم بقوله: لِمَ لا تدافعون عن أنفسكم، وهيبتكم، وكرامتكم، وعشيرتكم، وقبيلتكم، ومكانتكم، وتاريخكم، أم أصبحتم جبناء كما قال عنكم بعض من الثوار بأنّكم بالنسبة لهم لا تساوون بعرة بعير؟ ثمّ تركهم يتساءلون وأفواههم تتمم من شدّة نيران الفتنة التي أُشعلت في صدورهم.

وذهب هناك يهمس في آذان البعض برسائل ادّعى أنّها قد بُعثت معه، وهو من باب الأمانة لا يمكن له إلّا أن ينبّه المعنيين بها؛ فقال: خذوا حذركم أيّها الثوّار؛ فأولئك أصبحوا يعدّون العدّة وسيأتونكم على حين غرة، اللهم أنّي بلّغت.

وعاد على وجه السّرعة إلى هناك، وكأنّه الصديق المخلص وهو يقول: ألا يغيظكم أيّها الرّجال اختطاف بعض من أخوتكم، وأبنائكم، وآبائكم، وأمهاتكم، وأخواتكم؟ ألا تغيظكم المساومة على تحريرهم؟ أهكذا أنتم جبناء أيّها السّادة؟ فإن بقيتم هكذا أشرف لكم أن تخلعوا ملابسكم وتلبسوا ملابس بناتكم ونسائكم؟ ومع ذلك انصحكم أن تتقدّموا فأنتم لا غالب لكم.

كل الذين استمعوا إليه بإنصات أخذوا بنصائحه كما أخذوا بمواقفه المخلصة تجاههم، وفي المقابل أخذ الآخرون بنصائحه ومواقفه المخلصة بعد أن أنصتوا أيضاً إلى قوله: أيّها الثوار؛ هل تقبلوا أن تقارنوا بأولئك؟ أيّها الثوّار؛ هل تقبلوا السكوت على دم الشهداء؟ إذا كنتم لا تقبلون بذلك فَلِمَ لا يتمّ القبض على جميع أولئك...؟

أم أنّكم خائفون منهم؟ أم ماذا أصابكم؟ لا تخافوهم فأنتم الغالبون. أنتم تمتلكون شرعيّة الثورة؛ فافعلوا ما تشاؤون ولا تستأذنوا من أحدٍ، أنّهم خائفون؛ فلا تتردّدوا. وبالتمام أعيدت على مسامع الطرف الآخر الجملة ذاتها (أنّهم خائفون؛ فلا تتردّدوا).

هكذا هو الشيطان الوطني لا ينام، ولا يترك من ينام، ولا ييأس من أعمال الفتنة، ولن يهدأ له بال ما لم يشعلها ناراً والشّمس في كبد السماء. ولكن دائماً المؤمنين حقّا هم المخلصون الذين يستعيذون منه بربهم في كلّ أمر وكلّ حين، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} .

يا له من شيطان وطني، يلعب بمستقبل المواطنين كما يلعب بعقولهم ورؤوسهم؛ فهو الذي يقف كلّ يوم بينهم وبين الاحترام وتحقيق الأمن وسيادة العدالة، وإعادة البناء والإعمار، ومع ذلك أخذ البعض بنصائحه في دفع عجلة العزل السياسي بلا عدالة، ومع أنّ البعض قد أخذ بها، إلّا أنّ الشيطان الوطني لا يثق في أحدٍ، ولهذا؛ فهو يكدّ ويجدّ من أجل إطالة عمر الفوضى، وعدم سيادة القانون، وعدم التمكّن من العدالة النجاحة.

ولسائل أن يسأل: وما هو الحلّ؟

أقول: أن يستعيد الجميع بالله من الشيطان الوطني، ومن لم يستعذ بالله منه بالتأكيد سيكون الشيطان الوطني له قريناً، {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} .

وعليه؛ فإن لم يترك القرناء قرينهم ويلعنوه إلى أبد الآبدين؛ فلن تغرس ثقة بينهم ولا فيهم، ولن يُبنى الوطن، ولن تُحمل المسؤولية بأمانة.

ولأنّه الشيطان الوطني؛ فهو إن رأى نيران الفتنة التي كان وراء اشتعالها  قد اشتعلت، يتبرأ من جميع الذين سكبوا الزيت عليها، {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .

ولكن، هل العيب كلّ العيب في الشيطان الوطني، أم أنّ العيب كلّ العيب في من اتبع إغوائه وفتنته؟

بدون شكّ سيقول الجميع أنّ العيب الكبير في من اتبع أهواءه، ولذلك عندما يَقدِم الإنسان على ما من شأنه أن يسيء للآخرين يسعي لإيجاد مشجب ليعلّق عليه أفعاله، ومن ثمّ؛ أصبح الشيطان الوطني مشجباً للذين هم غافلون عمّا أمر الله به ونهى عنه؛ فأولئك الغافلون لا يتخذون سبيلاً إلّا سبيل الغي.

وبما أنّنا نتحدث عن الشيطان الوطني؛ فمن هو ذلك الشيطان الوطني؟

بدون شكّ الشيطان الوطني هو من أبناء آدم عليه الصّلاة والسّلام، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}  قال: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) وهنا جاء شياطين الإنس قبل شياطين الجن، وهذا يدل على عظمة الفتن، وشدّة آلامها، وهي التي يجرأ عليها الشياطين من بني الإنس وهي أعظم ممّا يجرأ عليه شياطين الجن، ذلك لأنّ شياطين الجن بالاستعاذة بالله منهم عن قلب يتمّ التخلّص من وسوستهم وفتنتهم، ولكن شياطين الإنس وإن استعاذ من استعاذ بالله منهم إلّا أنّهم ملعونون؛ فلا يستوقفون أعمالهم ومفاسدهم حتى تشتعل نيران الفتنة.

وبذلك فإنَّ شياطين الإنس هم أكثر حقدٍ، وأكثر ظلمٍ، وأكثر عدوانٍ، وأكثر فتنة من شياطين الجن عليهم اللعنة؛ فهم لا يقتصرون على قدراتهم برغم ما فيها من خبث ولؤمٍ، وزخرف قول؛ بل يتجاوزونها إلى  طلب المعونة من شياطين الجن، ولذلك فالشيطان الوطني هو أكبر شياطين الإنس، فمن يعوذ به لا شكّ أنّه سيزيده رهقاً، {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقً} .

ولأنّه الشيطان الوطني؛ فهو الذي يشتم الجميع دون استثناء، وأوّل من يشتم، يشتم الوطنيين من أي فئة كانوا، وبذلك فهو الذي يشتم الوسطيين والذين يأملون الوفاق الوطني، كما أنّه يشتم المستقلّين ويشتم السلفيين، ويشتم الإخوان المسلمين، ويشتم العلمانيين كما يشتم اليساريين دون أن يخشى أحد، وهكذا هو يشتم منظمات المجتمع المدني، ومنظمات حقوق الإنسان كما يشتم كبار القوم. إنّه الشيطان الوطني الذي لا يهدأ له بال إلّا إذا اشتدّت الأحوال بين الأخوة تأزّماً.

ولأنّه الشيطان الوطني؛ فهو يعمل كلّ ما في وسعه من أجل أن يُشهَر السلاح في وجوه الأبرياء، ويحفّز على إشهاره في وجوه الأخوة أكثر ممّا يحفّز على إشهاره في وجوه الأعداء، وفوق ذلك لا يقرأ نشيده الوطني ولا تعزف موسيقاه الوطنية إلّا إذا اشتدت المعركة واتسعت دائرة الاقتتال بين بني الوطن الواحد.

ولأنّه الشيطان الوطني؛ فهو يشترك في ملكية معظم القنوات الإعلامية كما يمتلك العديد من الصّحف والمجلات، وكذلك يدعم المكوّنات السياسية والاجتماعية وكأنّه المخلص لمكوّنٍ واحدٍ بعينه.

ولأنّه الشيطان الوطني، عمل على بناء سياج عملاق فاصل بين الأبناء (الشباب) وبين الآباء (الكبار)، وذلك لأنّه يعرف جيداً أنّه لا مُفسد لنزغه ومفاسده إلّا بالتواصل واللحمة بين الأجيال؛ فالمجتمعات التي تُغيّب كبارها عن المشهد، قد تفقد ذاكرتها، ولا تتعظ من التاريخ وأخذ العبر منه، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى}.

هذا الأمر يتعلّق بنزغ ومفاسد شياطين الجن، ولكن أمر الوطن الذي نحن بصدد الكتابة عنه؛ فهو المتعلق بنزغ ومفاسد شياطين الإنس عليهم اللعنة؛ فهم أولئك الذين يريدون إفساد وحدة الوطن.

ولأنّ عمل الشيطان عمل مفسدة، لذا؛ سيظل الصراع على أشدّه بين أهل الحقّ وأصحاب الباطل، ولأنّه كذلك؛ فلا شكّ أنّ الحقّ سيكون الكفيل بدمغ الباطل وزهقه مصداقاً لقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} .

ولأنَّ الوطن للجميع؛ فمهمّة الشيطان الوطني هي العمل على فتنة الجميع، ولأنّ الفتنة رأس مال عمل الشيطان، وأنّ أكثر الناس لا يفقهون، وأكثرهم مجرمون، وأكثرهم فاسقون، وأكثرهم لا يعلمون، وأكثرهم يجهلون، لذا فهؤلاء دائماً هم في صدارة من يتبع خطواته التي نهى الله عنها، {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} .

ولأنّه الشيطان الوطني؛ فهو من يتّصل بالجميع دون تردّد، يتّصل بالثوّار ليحيد منهم من يحيده عن الاستقامة، ويتّصل بالقوّة السّاكنة ليحركها في الاتجاه الذي لا يُرضي الله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويتّصل بالقوّة المتحرّكة ليكشف أمرها ويحرق أوراقها، ومن باب إخلاصه في أداء مهام الفتنة الوطنية؛ فهو كما فرِّق بين المرء وزوجه، فرّق بين بني الوطن، وهكذا هو يفعل.

ولأنّه الشيطان الوطني؛ فهو الذي يتّصل بالجميع من أجل أن يجعل الخطاب السائد بينهم ( نحن أو أنتم)، ولكن إن ساد هذا الخطاب (نحن أو أنتم) تصبح مصارف الدّم في حاجة للمزيد، وعندها يصبح الشيطان الوطني في غاية الامتنان، ممّا يجعل الضعفاء يسرعون لاستدعاء المنقذ الخارجي، وإن تمّ ذلك؛ فلكلٍّ ثمنه عاجلاً أم أجلاً.

فالوطن الفقير، والموقع غير الاستراتيجي، يطول فيه زمن الاقتتال الداخلي، كما هو الحال في الصومال وأفغانستان، والوطن الذي موقعه بين عدوٍ وصديق ولم يزخر بالذّهب الأسود كما هو الحال في سوريا، فلا يمكن أن يتدخلّ المنقذ الخارجي إلّا بعد أن يضعف السوريون بعضهم بعضا؛ فسوريا يراد لها أن تكون دولة ضعيفة كي لا تهدّد أمن إسرائيل، فبعد أن يتأكّد المنقذ الخارجي عن بعدٍ أنّ الأمر أصبح على ما يرام؛ فلا شكّ أنّه سيتدخّل ليتأكد عن قربٍ بأمّ عينيه؛ ومن ثمّ؛ فإن دخل ووجد ما تبقّى من قوّة وعتاد فيسرع بتدميره، ومن بعدها سيعمل على دفع البعض بالبعض جماعات وفرق لتكوين دولة الجماعات والفرق، وذلك من أجل أن تمضي الدّولة السّورية ضعيفة وهي خاضعة للملاحظة والمراقبة الدولية، وهكذا هم يفعلون.

أمّا في دول الموقع الزاخر بالذّهب الأسود والموقع الإستراتيجي كما هو الحال في ليبيا؛ فزمن استدعاء المنقذ الخارجي لا يمكن أن يطول؛ ذلك لأنّ البحر الأبيض المتوسط مثل السّمكة، ظهرها أوربا وبطنها ليبيا، وأيّ مساس ببطن السّمكة يعدّ مساس بظهرها. 

ولسائل أن يسأل: وما هي العلاقة بين المنقذ الخارجي والشّيطان الوطني؟

أقول: لو لم يكن للشّيطان الوطني دور فعّال بين أبناء الشّعب، ما كانت الحاجة تدعو إلى البحث عن منقذٍ خارجي.

ومع أنّه الشيطان الوطني، إلّا أنّ نشاطاته السياسية متجاوزة للحدود؛ فهو كما يتّصل بالمواطنين، يتّصل بالقوى العالمية ليحرّضها على التدخلّ، ولكن بعد أن يبلغهم برسالته التي تحتوي (أنّ الخطر كلّ الخطر سيكون موجّه إليهم)؛ فيشعرهم بخطورة ذلك وكأنّه العميل الصّادق، والصديق المخلص، وعند عودته على الفور إلى تراب الوطن، يهمس للبعض بأن يتّصلوا بالقوى العالمية؛ فهي في الانتظار، وعلى أهبة الاستعداد، فإن استجابوا، ينتقل في الحال إلى البعض الآخر من القوى الوطنية السياسية ليخبرهم بما سيقدم عليه أولئك الذين قد أقنعهم بالاتصال بالقوى العالمية، وبمثل هذه الجهود يتم الإسراع بإشعالها نارا بين بني الوطن.

وهكذا أدواره تتبدّل بين لحظة وأخرى، وفتنته تتجدّد، والغاوون من البائعين والمشترين يرقصون على نغمات مزاميره كما يرقص الكتكوت على مزمار ثعلب.